لم يعد من الممكن تجاهل المواقف التي يطلقها قادة تنظيم "داعش" الإرهابي، ولا التحركات التي يقومون بها على أرض الواقع، في سوريا والعراق أو في ليبيا ومصر، خصوصاً أن صورة منطقة الشرق الأوسط باتت ترسم إنطلاقاً منها، عبر التحالفات التي تُشَكَّل والحروب التي تُشَنّ، تحت عنوان مكافحة "الإرهاب"، بعد أن بات خطره يهدد العالم، بالرغم من الضربات التي يتعرض لها.

من حيث المبدأ، هناك مجموعة من علامات الإستفهام التي من الضروري أن تطرح. لكن بوصلة الأحداث تمنع التركيز عليها، منها على سبيل المثال ما يتعلق بقدرة التنظيم على تنفيذ العمليات في الداخل الأوروبي، أو بالأسباب التي دفعت بالقوى الإقليمية والدولية لإفساح المجال أمام تطوره من جديد، بعد أن كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في العراق، قبل بداية الحرب السورية، وصولاً إلى التغاضي عن تهريب الأموال والمقاتلين إليه، بالإضافة إلى تركه يسيطر على مساحات واسعة من العالم الإفتراضي تسمح له بالإستمرار في الترويج لخطابه.

في السياق نفسه، تأتي الإطلالة الأخيرة لزعيم التنظيم ​أبو بكر البغدادي​، التي يضعها بعض المراقبين لعمل الجماعات المتطرفة، في إطار إستكمال المشهد الذي يُعد في دوائر صنع القرار العالمية والإقليمية، من خلال تمهيد الطريق لبناء المشاريع السياسية على أنقاض "داعش"، بعد أن نجح في تنفيذ الأهداف المطلوبة منه في الميدان العسكري، عبر تكريس الإنقسامات الطائفية والعرقية بشكل أساسي، بالإضافة إلى خلق أقاليم جغرافية يراد لها أن تبقى على قيد الحياة، بالتزامن مع إنهاك جيوش الدول التي يتواجد فيها في حروب طاحنة.

وفي حين وجد معظم المتابعين في تهديد البغدادي لإسرائيل أمراً لافتاً، في الوقت الذي تواجه فيه إنتفاضة شعبية في الضفة الغربية، يعتبر هؤلاء المراقبين أن زعيم "داعش" يقدّم خدمة كبيرة لتل أبيب، عبر تمهيد الطريق أمامها لتطرح نفسها ضمن الدول المُهَدَّدَة الواجب مساعدتها في محاربة "الإرهاب"، لا بل ربما مشاركتها في التحالفات الإقليمية والدولية التي يجري العمل على تشكليها، بالتزامن مع تسريبات صحافية عن إجتماعات تعقد بين شخصيات من حركة "حماس" و"داعش"، بعد أن عملت على مدى سنوات طويلة على محاولة تصنيف أغلب فصائل المقاومة منظمات "إرهابية" في البلدان الغربية.

ما يجري على الصعيد الإسرائيلي، لا ينفصل أيضاً عن الخلافات التي حصلت في إجتماع مجموعة الدعم الدولية الخاصة بسوريا الأخير في نيويورك، لناحية الإنقسام حول تصنيف الجماعات المقاتلة على الأرض، والسعي إلى ضم "حزب الله" وحركة "أمل" وحزب "البعث"، بالإضافة إلى أحزاب وتيارات أخرى، إلى اللائحة، في الوقت نفسه الذي يجري العمل فيه على تلميع صورة منظمات تدور في فلك تنظيم "القاعدة" الإرهابي.

على صعيد متصل، يلفت المراقبون إلى الرسالة الثانية التي أطلقها البغدادي، الموجّهة مباشرة إلى المملكة العربية السعودية، بعد أيام قليلة على إعلانها التحالف العسكري الإسلامي، محرضاً السعوديين على الإنقلاب على النظام الحاكم، ومتحدياً الدول التي قد تشارك في التحالف، حيث من الواضح، بالنسبة إلى المراقبين، أن هناك إستدراجاً لتسريع الخطوات العمليّة المنتظرة، بعد تأمين الإطار النظري القائم على تسليم الأراضي التي يتم "تحريرها" من "داعش" إلى "المحررين"، الذين يأخذون دائماً طابعاً مذهبياً أو عرقياً، كما حصل في الرمادي بعد منع قوات "الحشد الشعبي" من المشاركة في المعركة، في مقابل تقديم مختلف أنواع الدعم لـ"قوات سوريا الديمقراطية".

بناء على هذه الصورة، يصبح من السهولة في مكان فهم الطريقة التي تنتهي فيها أسطورة "داعش" في الوقت الراهن، حيث بات تحرير المناطق يتم خلال أيام قليلة، تماماً كما حصل يوم دخول قواته، من سوريا إلى العراق، من أجل إحتلال مساحات واسعة من دون أن تواجه أي مقاومة تذكر، لا بل أكثر من ذلك السيطرة على الرمادي، في العام الحالي، تمت في ظل الحرب التي يشنها التحالف الدولي لمكافحة "الإرهاب" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

في المحصلة، الطريقة التي يتم فيها التعامل مع التطورات في المنطقة، لا سيما لناحية مكافحة "الإرهاب"، تدفع إلى الإعتقاد بأن البغدادي ليس إلا شخصية "راجح"، المعروفة في فيلم "بياع الخواتم"(1)، التي إخترعها "المختار" من أجل البقاء في السلطة، في حين أن المطلوب من شخصية زعيم "داعش" إعادة رسم الشرق الأوسط، وفقاً لنظام جديد من توازن القوى على المستويين الإقليمي والدولي.

(1)مسرحية بياع الخواتم مسرحية للأخوين رحباني بطولة فيروز، قُدّمت عام 1964 في مهرجان الأرز، وفي دمشق عام 1964، ثم نقلت إلى السينما في فيلم يحمل نفس العنوان. وتدور القصّة حول اختراع المختار في ضيعة من صنع الخيال، لشخصية اسمها راجح، زاعماً أنه يعادي أهالي القرية، وأن صِدامه مع المختار ينتهي دوماً بانتصار الأخير. لذلك فهو يحمي الضيعة، ويمنع الأذى عن الأهالي. ويأتي اليوم الّذي يعترف فيه المختار لابنة أخته ريما (فيروز) أنه اخترع هذه القصة لتسلية أهالي قريته. أمّا ريما التي لم تكن مرتاحة للقصة، اقتنعت أنه بكذبة بيضاء صغيرة، لن يحصل أذى خطير. إلا أن فضلو (جوزيف ناصيف) وعيد (إيلي شويري) الشابّين المحبين للأذى، شكّا بمصداقية القصة، وقررا استغلالها لمآرب شخصية، وضعا قائمة بجرائم تدعو للشفقة، على أن ينفذاها ويضعان اللوم على راجح.