واضح أن المرحلة الحالية والتي من المفترض أن تكون فاصلة ما بين جولتَي تفاوض ستكون بالغة الحماوة. لكن ما يميز هذه المرحلة الحامية أنها تشهد تساقُط «الرؤوس» والتي بدأت في سوريا وتحديداً ما بين دمشق والجولان مع ​سمير القنطار​، ثم زهران علوش، لتصل المحطة الى السعودية مع تنفيذ قرار الإعدام بحق الشيخ نمر النمر.

وعندما تبدأ مرحلة التصفيات الجسدية وشطب أسماء من المعادلة، فهذا يُبيّن من دون أدنى شك ترتيب المسرح تحضيراً لتسويات مقبلة. هكذا تحصل الأمور في العادة.

مع القنطار كان التعديل يطاول جبهة الجولان بعد الإستقرار الذي تعيشه الحدود اللبنانية منذ العام 2006. ومع علوش تنتهي الأوهام المطروحة حول دمشق وضمناً حول إسقاط بشار الأسد بالقوة العسكرية إضافة الى دوزنة أحجام قوى المعارضة في مرحلة التسويات.

ومع تنفيذ حكم الإعدام بحق الشيخ النمر، هناك سعي لإقفال الباب أمام طموح إيران للنفاذ الى قلب المعادلة السعودية، ولو أدّى ذلك الى تداعيات يمكن استيعابها وحصرها وفق حسابات الرياض.

وقد لا يكون هذا العامل هو الوحيد الذي حتّم على السعودية تنفيذ قرار الإعدام الآن بعد مدة طويلة على اتخاذه. فقد تكون هذه الحسابات استندت أيضاً على الوضع الهجومي الجديد الذي ساد الساحة السورية من قبل إيران والى حدٍّ ما الساحة العراقية، وكذلك لبنان، حيث رفض «حزب الله» التجاوب مع المبادرة الرئاسية السعودية.

وبذلك أرادت الرياض ربما التأكيد على نيّتها خوض المنازلة في المرحلة الفاصلة ما بين جولتَي التفاوض.

وللسعودية أسباب إضافية تُدخلها خيار التصعيد، منها مثلاً الأوضاع الإقتصادية المتأتية عن تدهور أسعار النفط، ما جعل الحكومة السعودية ترفع أسعار المحروقات، وهو ما أثار اعتراضات داخلية، وبالتالي فإن خيار المواجهة مع إيران سيُساهم في وضع الملفات الداخلية الصعبة جانباً لصالح المواجهة الكبرى الدائرة مع إيران.

من هذه الزاوية مثلاً، جاء القرار باستعادة الحرب في اليمن واستئناف «عاصفة الحزم» بعد ساعات على إعلان تنفيذ قرار الإعدام بالشيخ نمر النمر.

وقد تكون واشنطن تخشى انفلات الأمور في مرحلة كانت تتوقعها، لكن المراقبين الغربيّين والذين يتابعون عن كثب تطوّر الأمور واثقون بأن العنف الذي سيتصاعد أكثر خلال الأيام والأسابيع المقبلة سيؤدي في نهاية المطاف الى زيادة التعب لدى الأطراف المشاركة وعلى قاعدة استمرار التوازنات القائمة بعناوينها العريضة ولو أدى ذلك الى تعديلات على مستوى بعض التفاصيل الميدانية، وإن ذلك سيساهم في دخول أكثر واقعية الى المرحلة التفاوضية الجديدة بعدما بدا في نتيجة الجولة التفاوضية السابقة بأن «السقوف» ما تزال شاهقة وبحاجة لكثير من التعديلات والتواضع.

وما مِن شك أن لبنان لن يكون بعيداً عن كل هذه الصورة الملبّدة. والواضح أن تيار المستقبل باشر باتخاذ وضعية الهجوم السياسي، وهو ما بادر اليه الرئيس فؤاد السنيورة في ذكرى اغتيال محمد شطح، حيث ظهر إعادة إحتضان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بما يشبه تحضير المسرح لمواجهة سياسية عنيفة.

وستُركّز هذه المواجهة أيضاً حول إعادة فتح أبواب مجلس الوزراء من خلال تصعيد الحملات السياسية والإعلامية حول مشاكل حياتية ملحّة تتطلب جلسات للحكومة.

لكن الأهم أن لبنان قد لا يكون بعيداً من سياسة شطب الأرقام من المعادلات القائمة، أو بتعبير أوضح، إسقاط الرؤوس أسوة بما هو حاصل في الساحات الأخرى بما يؤدي الى تدوير الزوايا وإنضاج الحلول، وتاريخ لبنان حافل بوقائع الإغتيال والأحداث الدموية التي كانت تهدف لخلق واقع مسهّل لولادة التسويات طالما أن المصلحة الخارجية أصبحت تتطلب ذلك. في العام 1975 اغتيل معروف سعد تمهيداً للحرب التي اندلعت مع بوسطة عين الرمانة، وكان الهدف فتح أبواب لبنان أمام منظمة التحرير الفلسطينية.

وفي العام 1982 اغتيل بشير الجميّل وهو كان ما يزال رئيساً منتخباً، والسبب أن الحرب اللبنانية لم تستوفِ بعد كامل شروطها الإقليمية.

وفي العام 1988 فتحت الساحة اللبنانية أمام جنون الفوضى وجرى دفع الأطراف لحرب الإلغاء والتي شكلت المدخل الفعلي لتطبيق إتفاق الطائف وبالتالي الدخول الى مرحلة الجمهورية الثانية. وجاء اغتيال رينه معوض بمثابة التعديل السوري المطلوب لشكل السلطة في الجمهورية الثانية. ويروى أن منظمة التحرير الفلسطينية وحتى واشنطن راقبتا العملية من بعيد.

وفي العام 2005 جاء اغتيال رفيق الحريري ليفتح الباب على مرحلة ما بعد سوريا في لبنان في عملية هائلة بتداعياتها وتشبه الى حد كبير تداعيات سقوط صدام حسين في العراق واغتيال ياسر عرفات في فلسطين. وبقيت جوانب عديدة وربما الجوانب الأهم غامضة في عملية الإغتيال هذه.

وفي 7 أيار 2008 عملية عسكرية حاسمة في بيروت والجبل، وكانت تهدف لتدشين مرحلة أكثر واقعية لبنانياً.

وفي العام 2012 عملية اغتيال العميد وسام الحسن ومن ثمّ دخول مباشر لحزب الله لصالح النظام السوري، في وقت غابت فيه ردود الفعل الدولية وخصوصاً رد الفعل الأميركي الشاجب بقوة كما من المفترض أن يحصل.

هذا التاريخ الحافل والغني بالضحايا والدماء والمآسي يطرح سؤالاً ردّده أحمد الحريري: هل إن بوادر الإغتيال عادت لتلوح أسوة بما هو حاصل في المنطقة وكممرّ وحيد للإنتقال الى مرحلة جديدة؟

خلال الأشهر الماضية كثرت التكهنات والخشية من الذهاب الى سيناريو دموي جديد في لبنان كطريق إلزامي للحل.

ومع التجميد الذي أصاب مبادرة الحريري الرئاسية عاد هذا الهاجس ليحوم من جديد خصوصاً وإن مضمون مبادرة الحريري لحظَ تعديلاً شكلياً طاول إسم رئيس الجمهورية في مقابل تشدّد بالتمسك الكامل بمضمون المعادلة الموجودة على مستوى الحكم. ما يعني أن التعديل الفعلي للمعادلة القائمة قد يكون بحاجة لصدمة قوية ومن هنا مبعث القلق.

وصحيح أن واشنطن قررت البدء بمحاورة «حزب الله» ولكن بعد تأمين الممر الآمن، إلّا أن ذلك قد لا يعني الحاجة الى الصدمة إذا لم يكن ذلك «يكملها».