في اعلان ملفت في مضمونه وتوقيته، حاول أصحابه القفز فيه فوق الكم الكبير من التناقضات المتعددة العناوين القائمة بينهما، اعلنت السعودية وتركيا انشاء «مجلس تعاون استراتيجي» مشترك يخطط لهما سياساتهما لمواجهة المتغيرات الدولية وما انتجته لهما من انهيارات متعددة العناوين،

مجلس يتولى وضع الخطط الانقاذية للخروج من المآزق التي انتجها ذاك الكم الهائل من الخسائر التي جاءت في معظمها من طبيعة استراتيجية تؤثر على مستقبل الدولة نظاما وفضاء استراتيجيا.‏

فالسعودية التي تتخبط في خيباتها بعد فشل «التحالف العربي» الذي انشأته للعدوان على اليمن فكانت نتيجته كارثة استراتيجية عليها ، و بعد فشل «التحالف الإسلامي العسكري» الذي أعلنته لتخوض به حربا على الإرهاب الذي لم ينشأ الا بوهابيتها و مالها و اعلامها ، و بعد الضمور المريع في فضائها الاستراتيجي نتيجة ما حل بها في الإقليم و كان اليمن مقبرة احلامها، السعودية هذه و بعد موجة التهكم و السخرية التي واجهها بها العالم اثر اعلانها «التحالف الإسلامي » الذي لم يقنع أحدا بوجوده او بفعاليته او بجديته حتى انه دخل في اقل من أسبوع طي النسيان ،السعودية هذه رأت ان تركيا حاجة لها و ان تطوير العلاقات معها الى حد العمل المشترك من خلال «مجلس تعاون استراتيجي» رأت فيه جسرا تعبر عليه ليخرجها مما تتخبط فيه ،فأقدمت عليه متجاوزة التنافس التناحري بين مشروع الاخوان الذي يقوده اردوغان ومشروع الوهابية السعودية الذي تعمل به .‏

اما تركيا التي فقدت حلمها الكبير مع سقوط مشروع الاخوان وضياع فرصة إقامة الامبراطورية العثمانية الجديدة و باتت محاصرة بالسياسة و الاقتصاد و الجغرافيا فضلا عن الامن و الميدان ،حصارا من كل اتجاه بدءا بالخصومة او العداء مع الجوار وصولا الى النفور مع المحيط الإقليمي ما وضعها في مشهد «صفر علاقات» بدل «صفر مشاكل» ، مرورا بالقطيعة المؤثرة و الحصار الذي تمارسه عليها روسيا اثر الجريمة التركية بأسقاط الطائرة الروسية ، وصولا الى محاصرة نفسها بالجدار العازل عن سورية الذي اضطرت اليه تحت وطأة ضغوط شتى لقطع طرق امداد داعش عبرها ( اقله نظريا او إعلاميا ).‏

تركيا هذه وجدت ان التخفيف من وحشة العزلة لا يتحقق فقط بإعادة العلاقات الطبيعية مع إسرائيل التي يراها اردوغان حاجة ضرورية لتركيا ، بل لا بد لها من دولة عربية تضاف الى قطر التي منحتها حق إقامة قاعدة عسكرية على أراضيها ، و يفرض التنسيق و التماهي استراتيجيا مع دولة أخرى تحتاج اليها لتخرجها مما هي فيه من عزلة و حصار و لذا وجدت في الانفتاح على السعودية مخرجاً اقله في المرحلة الحاضرة و هي مرحلة باتت بعرف الجميع مرحلة تلمس الطرق الى حلول لأزمات المنطقة ، و إرساء نظام إقليمي يكون الأساس في انتاج نظام عالمي جديد بدأت ارهاصاته تظهر ، حتى بتنا لا نجازف اذا قلنا بانه الان في حالة جنينية وينتظر وقتا للولادة التامة .‏

ان السعودية وتركيا المحاصرتين بالإخفاق والهزائم والخيبات والمتناقضتين في المشروع واللتين لا يجمعهما الا التبعية للخارج والعلاقة مع إسرائيل والعداء لمنطق الحرية والاستغلال بالإرهاب، ان هاتين الدولتين ما كانتا لتدخلا فيما يشبه التحالف الاستراتيجي لو نجح أي منهما في مشروعه الذاتي او استطاع ان يحافظ او يوسع فضاءه الاستراتيجي.‏

فلو نجح مشروع الوهابية واستطاعت السعودية الإطاحة بالحكومة السورية وتنصيب دمى لها مكانها، او لو تمكنت من العودة الى العراق واحياء نفوذها او سيطرتها على قراره، اولو استطاعت النجاح في مناورتها الأخيرة في لبنان لإعادته الى بيت الطاعة السعودي لتتحكم به من غير شريك ولو استطاعت ان تنفذ مشروعها في اليمن وتعيده حديقة خلفية لها، لو استطاعت كل ذلك او بعضه لما التجأت الى اردوغان للتحالف معه وهي تعلم انه في أهدافه الاستراتيجية يناقضها ولن تتمكن ان تجاريه لأكثر من سبب وحيثية.‏

اما اردوغان فهو الاخر ما كان ليدخل في هذا التحالف لو كان نجح في مشروع الاخوان انطلاقا من سورية الى تونس مرورا بمصر وليبيا أو لو استطاع ان ينفذ شيئا من أحلامه في سورية او في العراق توسيعا لفضائه الاستراتيجي. فهو لم يجازف بعلاقات يعلم انها غير قابلة للحياة والاستقرار الا بعد ان تأكد له انهيار مشروعه الاساسي أي انهيار مشروع الاخوان في اللحظة التي استنقذت فيها مصر نفسها من انياب الاخوان المسلمين ، و تعزز الانهيار بما شهدته الساحة السورية من متغيرات خاصة في النصف الأخير من العام المنصرم ، متغيرات لم تؤد فقط الى فقدان اردوغان الامل بإقامة المنطقة الامنة او الممرات الإنسانية او منطقة الحظر الجوي كما كان يخطط ، بل و قطع يده عن التدخل الطليق في الأجواء و الميدان السوري و تهميشه سياسيا في الملف السوري كله .‏

ان التماثل في الفشل والإخفاق، والخوف من المستقبل الذي لمس الطرفان بوادره مع بدء التحضير لتحريك العملية السياسية في سورية حيث همشا كليا، كل ذلك دفع الخائبين السعودي والتركي الى انشاء هذا التحالف فهل سيكون له مفاعيل او إثر؟‏

اننا و على ضوء التجارب الماضية نستطيع ان نقول ان الفشل سيكون في انتظار هذا التحالف لأكثر من سبب ، فالسعودية التي امتهنت ارتكاب الأخطاء و الحماقات و اضاعت الكثير من الفرص في الأعوام الماضية لجهل او مكابرة ، لن تستطيع في ظل موازين القوى الجديدة ان تحدث أي خرق في أي ساحة تعنيها ، و لن يكون التركي قادرا على مساعدتها في الميدان او في السياسة خاصة في اليمن و العراق و سورية و لبنان ،فلن ترسل تركيا جيشا لأي من هذه الدول ووجودها العسكري المحدود في العراق هو وجود محاصر سياسيا حتى الان وسينقلب الى اكثر من حصار سياسي في المستقبل .‏

اما تركيا فانها لن تستطيع ان تحصل من السعودية على ما يخرجها من المصاعب والمآزق التي صنعتها لنفسها في سورية والعراق وروسيا كما ان مصر ورغم المال السعودي لن تفتح لتركيا بابا اليها وهي تمثل خطرا امنيا استراتيجيا لها.‏

ومع هذا العجز المتبادل نعود فنسأل أي جديد سيقدم «مجلس التعاون الاستراتيجي» لأي من البلدين؟ ونرى الجواب وبكل موضوعية، انه « لا شيء» سوى انتاج عنوان يضاف لعناوين الفشل لهما، وكما انقلبت تركيا على مجلس مماثل انشأته مع سورية يوما فانها لن تتأخر في الانقلاب على السعودية، وكما قطفت السعودية الفشل من التحالف العربي والتحالف الإسلامي فان نصيبها من الفشل هنا لن يكون اقل من الإخفاق هناك. فعلى البلدين ان يقرآ بانهما خسرا الحرب الإقليمية وهمشا في المواجهات الدولية ولن تغني أي منهما لاستعادة الموقع والهيبة مجالس اصطناعية او جرائم بحق المواطنين كما ارتكبت السعودية بحق الشيخ النمر من اعدام، ولن يتأخر العام الجديد في كشف واقعهما المترهل وفضائهما الاستراتيجي الضامر.‏