انتهت سنة 2015 بحدث امني لافت، ولكنه مرّ بطريقة سحرية مرور الكرام، علماً انه يحمل في طيّاته الكثير من الدلالات والمؤشرات والرسائل. فحادثة اطلاق النار على الطوافة اللبنانية من قبل الجيش السوري فوق عكار(1)، تم تخطيها بسرعة قياسية.
في الواقع، تحمل المسألة اكثر من مجرد حادثة عفوية، فالسيناريوهات العديدة كلها تصب في خانة توجيه رسالة سورية، وذلك للاسباب التالية:
1- إدّعت سوريا ان الطوافة خرقت اجواءها، وبالتالي اطلقت النار عليها. وهنا لا بد من السؤال: اذا صحت هذه النظرية بالفعل، بالنسبة للجيش السوري ما هو التهديد الذي تحمله طوافة الجيش اللبناني المعروف عالمياً انها ناقصة التجهيزات ولا تصلح سوى كوسيلة نقل؟ وهل بات الجيش اللبناني بنظر السوريين يعمل فعلاً على مساعدة "داعش" والارهابيين ويعطيهم المعلومات؟
2- كان يمكن للمضادات السورية ان تسقط الطوافة بكل سهولة، خصوصاً وانه كما اشرنا ليست الطوافة بالعسكرية ولا تملك اجهزة متطورة تخولها التهرب من نيران المضادات السورية. وكان واضحاً ان الهدف ليس اسقاطها الطائرة بل ارسال رسالة سياسية.
3- هل لبنان بلد عدو لسوريا كي يتم اطلاق النار على الطوافة (اذا خرقت بالفعل الاجواء السورية)، دون تحذيرها او ابلاغها انها باتت في الاجواء السورية؟
اسئلة كثيرة اخرى يمكن طرحها، ولكن الثابت واحد وهو ان سوريا ارادت ايصال رسالة. اذ ليس من المنطقي ان الطائرات التركية والاسرائيلية وتلك التابعة للتحالف الدولي تستبيح الاجواء السورية ليل نهار وتقصف وتلحق الاضرار بالجيش السوري، دون ان ترد سوريا سوى بالكلام والتهديد. ويقيناً انه لولا التواجد الروسي في سوريا، لكانت سماؤها تحولت الى "اوتوسترادات" للطائرات الحربية من مختلف الجنسيات.
ارادت سوريا، ومن خلال هذه الحادثة ان تؤكد انها لا تقبل ان يتحول لبنان الى بلد متفوق عليها، فالطائرات السورية اغارت في السابق اكثر من مرة على مناطق لبنانية وواجهها الجيش اللبناني ايضاً بالتهديد وبعض المضادات القديمة التي لا يملك سواها، ولا تشكل بطبيعة الحال اي خطر على طائراتها النفاثة. وبالتالي ليس مسموحاً للبنان من الوجهة السورية ان يعتقد بقدرته على التجول جواً على مقربة من الحدود السورية او حتى ان يخرق الاجواء السورية.
ويترافق عدم التقبل هذا مع موضوع آخر لا تزال سوريا مصرّة عليه، وهو ان يقيم لبنان مشاورات رسمية معها في حين ان الحكومة اللبنانية لا تزال على موقفها العلني بعدم التنسيق مع الحكومة السورية، علماً ان التنسيق غير العلني قائم على الصعيد الاستخباراتي والامني، ومنها ما كان علناً وتمثل في قضية العسكريين المخطوفين لدى "النصرة"، حين شكر ممثل الحكومة في المفاوضات اللواء عباس ابراهيم، سوريا على جهودها في هذا الملف.
الغريب ان الرسالة وصلت، ولكن احداً من اللبنانيين لم يعلّق عليها، فالمؤيدون لسوريا اكتفوا باعتبار الطائرة خرقت الاجواء السورية ومن حق السوريين ان يردوا على هذا الخرق، فيما ادار معارضو سوريا الاذن الصماء واستمروا في اهتمامهم بـ"المبادرة الرئاسية" وملف النفايات وتداعياته.
وبين هذا وذاك، كانت الامور لتتعقد كثيراً لو سقطت الطائرة او استشهد من فيها بسبب النيران السورية. ولا يمكن القول ان سوريا "تتمرجل" على لبنان لانها تدرك ان هذا البلد لم يعد مجرد مساحة جغرافية صغيرة، بل مركز اهتمام ومصلحة خارجية قبل ان يكون مصلحة اقليمية، وبالاخص مع استقباله لاكثر من مليون ونصف المليون نازح، مريحاً الاوروبيين تحديداً من "كابوس" الاعداد الهائلة من النازحين. كما ان الهيبة السورية لم تعد كما كانت، وهو امر ليس بخفي ولا يمكن تجاهل الدور الاساسي لـ"حزب الله" وايران في ابقاء النظام السوري حياً.
لا تسمح الظروف الحالية لدمشق ان تفرض كما في السابق، قوتها العسكرية على لبنان، وكل ما يمكنها فعله هو دفعه بالترغيب والترهيب للتعاون معها بشكل علني قبل التوصل الى التسوية التي ستعيد العلاقات بين سوريا وكل الدول، في المنطقة وخارجها.
(1)بتاريخ 31/12/2015 تعرّضت طوافة للجيش اللبناني لاطلاق نار من الجانب السوري في ما كانت تقوم بجولة فوق عكار.