يعيش اللبنانيون على إيقاع التطورات السورية، ويعمدون في الوقت الضائع بين الانتصارات الميدانية التي يحققها الجيش السوري، والتحضير للسير بالتسوية المفترضة في جنيف، إلى الانشغال برئاسة جمهورية ضائعة بين الأمن المستلَب في عرسال، واقتصاد متردٍّ في أنحاء البلاد، وعجز عن إدارة ملف النفايات التي لم يعد الإعلام يتعاطى معه بما يستحق من أهمية.

وفي خضمّ صراع المحاور المحتدم في المنطقة، تختلط المحاور الداخلية اللبنانية، لا سيما المسيحية منها، فالوزير السابق سليمان فرنجية الذي يعيش على أمل إحياء تسوية وُلدت ميتة، يسافر ليلتقي الرئيس الأسبق سعد الحريري في باريس، وفي جرأة معلنة هذه المرة، على عكس المرة السابقة التي حاول الرجلان التستّر عليها، فكان أن جوبه النكران بصور مسرَّبة من قبَل فريق الحريري نفسه، ما جعل فرنجية يبدو كالرجل المضبوط بجرم نكران أمر ليس بجرم أصلاً.

أما على الجبهة المسيحية الأخرى، فإن التقارب بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" يشغل الإعلام والسياسيين، في ظل تساؤل عمّا يحضّره المسيحيون وماذا يريدون، علماً أن اللقاءات بين الأحزاب الأخرى كـ"تيار المستقبل" وحزب الله لا تثير استهجاناً لدى هؤلاء كالذي يثيره لقاء الأحزاب المسيحية، بالرغم من كل خطاباتهم المتشنّجة التي تصدر باستمرار، والتي تتلاقى دائماً مع التصعيد في الإقليم.

وفي ظل كل هذا، لا تبدو التسوية في لبنان تلوح في الأفق في الأفق، بغضّ النظر عن كل الحراك الرئاسي الدائر بين الرابية ومعراب من جهة، وبنشعي وباريس من جهة أخرى، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: تقود السعودية محوراً يعيش أكثر أوقاته إحراجاً على الإطلاق؛ فالأحلاف العسكرية التي تمّ الإعلان عنها من قبَل السعوديين ظهرت فعلاً أنها قنابل صوتية وهمروجات إعلانية أكثر مما هي فعلاً على الأرض، ولم يكن السعوديون ليُعدموا الشيخ النمر بما له من رمزية، لولا حاجتهم لتصعيد كبير يعطّل أسس التسوية السورية التي لاحت في الأفق، والتي لم تكن في صالح السعودية وحلفائها على الأرض السورية، علماً أن السعودية حاولت الالتفاف على كل مخرجات التسوية، بمحاولة دسّ اسم حزب الله وحركة أمل والبعث اللبناني في قائمة المنظمات الإرهابية التي أعدّها الأردن، ثم بمحاولة احتكار تمثيل المعارضة السورية.. وعندما لم تُفلح في وقف المسار كلياً، عمدت إلى التصعيد، أملاً في الوصول إلى كباش إقليمي كبير يحرف الأنظار عن التسوية السورية، ويعطّلها للأبد.

ثانياً: بالرغم من الخطأ الإيراني بالسماح للمتظاهرين بإشعال النيران في السفارة السعودية في طهران، فإن السياسة الإيرانية المتحلية بضبط النفس، والرد المتّزن والمتريث منذ حرب اليمن، وبعدها فاجعة منى التي راح ضحيتها المئات من الحجاج الإيرانيين، يشي بأن الإيرانيين يُدركون محاذير الانجرار إلى الرد العنيف على السعودية، ويريدون تفويت الفرصة على السعوديين بافتعال حرب إقليمية جنونية، تؤدي إلى خسائر بالجملة للإيرانيين، سواء في الإقليم أو في الملف النووي ورفع العقوبات الدولية.

هذا في السياسة، أما في الميدان السوري، فإن الصراخ المعارض الذي يتهم الأميركيين بالتخاذل، بالإضافة إلى تقدُّم الجيش السوري وحلفائه الثابت والوثيق، والانتصارات التي يحققها، وآخرها إسقاط منطقة سلمى، بما تعنيه من قيمة استراتيجية كأول "إمارة" كانت قد أنشأتها المجموعات المسلحة في سورية، يدفع إلى الاعتقاد بأن محور روسيا - إيران - سورية - حزب الله لن يكون مستعجلاً أبداً لعقد أي تسوية في أي مكان في الإقليم قبل حصد النتائج السياسية للميدان في سورية، فالتنازلات التي قد يجدون أنفسهم مضطرين لدفعها ثمناً للتسوية والحل السياسي، ستنخفض مع مرور الوقت تزامناً مع الانتصارات العسكرية.

انطلاقاً من هذا، فإن المشهد اللبناني لا يمكن أن ينفصل عن كل هذا الكباش، فلا حلفاء إيران مستعدون للسير بتسوية رئاسية وإعطاء "هدايا" للسعودية في لبنان تجعلها تعوّض خسارتها الإقليمية، وتمنحها زخماً أكبر للقتال والتصرفات العدوانية تجاههم، ولا السعوديون سيتسامحون مع أي انقلاب ضدّهم من قبَل حلفائهم، يؤدي إلى انتخاب رئيس للجمهورية متحالف مع المقاومة، ولو اضطرهم الأمر إلى إشعال النار في لبنان أو إغراقه بالدماء؛ كما هدد أحد قادة "تيار المستقبل" سابقاً.