لا تتوقف معاناة صيادي الاسماك في صيدا في رحلتي الصيف والشتاء، فعنوانها واحد معاناة دائمة وشكوى متزايدة، وتقصير من الدولة، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الضمان الاجتماعي بعدما عانوا من الصيد غير المشروع بالديناميت والجاروفة خلال عقود سابقة، ومن المكب ونفاياته بعد ازالته من بلدية صيدا وتحويله الى حديقة عامة، حتى جاءت العاصفة الاخيرة لتعيد فتح جراحهم على مشكلتهم الرئيسية مع فصل الشتاء في العطلة القسرية بانتظار الفرج.

اليوم في فصل الشتاء، ترسو في ميناء الصيادين، مراكب صيادي الاسماك، تميل يمينًا ويسارًا، لتعلن عطلة قسرية فرضتها الامواج العاتية والانواء القوية نتيجة العاصفة التي ضربت المدينة كما باقي المناطق اللبنانية، وهي ان كانت تحمل تباشير الخير على البر، فانها في البحر تروي فصولا جديدة من معاناة الصيادين التي لا تنتهي صيفا وشتاء... تحمل في كل حين عنوانا وشعار "الداخل الى البحر مفقود والخارج منه مولود"، "البحر مثل الغول يأكل كل شيء"، والصيادون مثل النمل يعملون بدأب بلا كلل او ملل، يخزنون قوتهم كما قرشهم الابيض لليوم الاسود وما اكثر الايام الحالكة الظالمة.

ايام العسر...

داخل مقهى صيادي الاسماك في صيدا، يجتمع "بحارة" كما يحلو لهم ان يطلق عليهم، حول طاولة خشبية قديمة، يلعبون "ورق الشدة"، ينفثون السجائر.. ويتحسرون على الايام الخوالي حين كانت "رزقة البحر لا ترد طالب، اما الان فكل يوم بيومه".

"انها ايام العسر". بهذه العبارات، يصف الصياد مصطفى بديع الذي احترف المهنة منذ 52 عاما الشتاء، قبل ان يضيف: "نمضيها على مضض، نعض على اضراسنا، نتألم كمن يضع الملح فوق الجرح، بل هي كبوة قبل الانطلاق مجددا الى فصل الخير، فالشتاء يحرمنا من الابحار اليومي، لاننا نخشى الانواء والموت، لقد بات حالنا مثل النمل، نعمل في الصيف ونستريح في الشتاء قسرا".

واعتبر بديع ان اشد الاشهر وطأة على الصيادين شهرا كانون الثاني وشباط، وقال: "احيانا يمضي علينا اسابيع من دون أن نغادر الميناء بانتظار صحو الطقس"، قبل ان يضيف "لا اعتراض على مشيئة الله، لكن الاوضاع الاقتصادية صعبة والغلاء فاحش ومتطلبات الحياة كثيرة، ولولا بعض الاهتمام بنا لكان الكثير بدل هذه المهنة، احيانا تعوض علينا وزارة الزراعة واحيانا بعض المؤسسات وماشي الحال".

اعداد ومعاناة

في ميناء صيدا يعمل نحو 350 صياد سمك يستخدمون نحو 175 مركباً، من بينهم نحو 250 لبنانياً، ينتسب منهم الى نقابة الصيادين حوالي 230 صيادا، والباقون يملكون مراكب من دون انتساب، فيما حوالي 100 صياد يحملون الجنسية الفلسطينية. وهم يشكون دوما من البحر ومفاجآته والدولة وإهمالها، وحرمانهم من الضمان الاجتماعي وعدم تطوير الميناء أو تقديم المساعدات وقبلها من الصيد غير المشروع بالديناميت والسموم والتحويق والجاروفة ومكب النفايات وأوساخه التي كانت تطفو سطحا وتستقر قعرا لتعطل المراكب وتمزق الشباك وتقضي على الثروة السمكية لينتهي الحال بغزو سمك "النفيخة" الذي أجمع الصيادون على وصفها بأنها "سرطان البحر" وباتت تسرق رزقهم وسمكهم وتسمم الناس بين الحين والاخر.

ويقول الصياد محمد بوجي الذي يعمل في صيد الاسماك منذ 40 عاما، في الطقس البارد والماطر تلازم مراكبنا حرم الميناء اما نحن ففي المقهى، قبل ان يوضح "مراكبنا صغيرة ولا تستطيع مواجهة الانواء القوية، بعض الذين يملكون مراكب كبيرة يغادرون ويخاطرون بحياتهم من اجل تأمين لقمة عيشهم وقوت يومهم، هذا حال البحر وقد صح به الوصف مثل الغول يأكل كل شيء ولم يعد يطعم شيئا، مشاكلنا كثيرة كانت مع النفايات سابقا، واليوم مع اسماك النفيخة التي تغزو المنطقة بشكل لافت، كما مع المضاربة والاستيراد من التركي الى الاسكندروني، وكلها عوامل لا تشجع على استمرار المسيرة لولا انها ورثة الاجداد والاباء"، مضيفا "الحياة صعبة وتتطلب اموالا كثيرة كي يعيش الانسان مستورا بعيدا عن ذل السؤال، كذلك البحر تغير، كثر الصيادون والمشاكل وقلة الرزقة والنخوة، كل شيء بات بحساب".

مطالب الصيادين

وكثيرا ما يطالب الصيادون بتوسيع مرفأ الصيادين بإقامة قواطع ورصيف إضافي في الحوض قبالة الرصيف الحالي، ورفع مستوى الضفة الاسمنتية أو "الزحليقة" داخل المرفأ للمزيد من الحماية والتحصين للمراكب، التي ترسو فيها، وتأمين رافعة "ونش" خاص بمراكب الصيادين، وإنشاء مقر جديد للنقابة داخل حرم الميناء، وإنشاء مقهى وتعاونية للصيادين، على أن يتم الفصل بين مرفأ الصيادين وبين المرفأ التجاري، فضلاً عن إقامة معمل للثلج وتأمين مولد كهربائي.

ويروي الصياد كمال ابو دقة الذي يعمل في البحر منذ ست عقود، بعضا من تلك المخاطر التي واجهها اثناء ابحاره وفي فصل الشتاء، فيقول "لن انسى ذلك اليوم الذي ارتفعت فيه مياه البحر الى الشاطىء، لقد وصلت الى هنا، مقر النقابة من شدة الامواج العاتية والرياح القوية، لقد جاء الشهيد معروف سعد وراح يساعدنا في جرف المياه التي غمرت كل شيء".

ويضيف: "كذلك لا انسى اليوم حيت هبت الانواء فجأة وكنا في عرض البحر باتجاه بيروت، كان التيار عكسنا، كابدنا المشقة للوصول الى الميناء، توقفت في مرفأ الجية بعضا من الوقت، قبل ان اواصل المسير وكان خياري ان ابقى هناك لليوم الثاني، لكني جازفت ونجحت في الوصول الى الميناء بسلام".

وبين الذكريات والاماني بان تعود ايام الخير، يصب ابو دقة جام غضبه على الاوضاع الاقتصادية الصعبة التي جعلته ومئات الصيادين في ميناء صيدا يركضون وراء لقمة العيش دون ان تشبع بطونهم الجائعة او تملأ جيوبهم الخاوية، اذ لم تعد المهنة التي ورثوها أبا عن جد تسد رمقهم أمام كثرة المشاكل التي يعانون منها.