منذ بداية أحداث سوريا مُنتصف آذار 2011، حاول النظام السوري تحييد ​الأكراد​ عن التظاهرات الشعبيّة التي قامت ضُدّه، عبر تسوية سريعة لأوضاع عشرات آلاف الأكراد(1)، وبعد إندلاع المعارك العسكريّة، تجنّب ​الجيش السوري​ الدخول في أي مواجهة مع الجماعات الكرديّة التي حملت السلاح وسيطرت على مناطق حُدوديّة واسعة مع تركيا(2)بعد إنسحاب القوّات النظامية السورية منها. وفي الأشهر القليلة الماضية تحرّك النظام السوري على خط موازٍ مع تحرّكات التنظيمات الكرديّة المُسلّحة، حيث عمل على السيطرة على الحدود مع تركيا من ساحل البحر الأبيض المتوسّط صُعودًا، في الوقت الذي كان فيه الأكراد يعملون على السيطرة أيضًا على المناطق الحُدودية مع تركيا من العمق السوري نزولاً نحو البحر. واليوم، يُحاول النظام السوري إستغلال الخلافات التاريخيّة بين تركيا والأكراد، لإضعاف قُدرة أنقره على التأثير في الأزمة السورية، وللتسبّب لها بمشاكل داخليّة، لكن إستخدام "الورقة الكرديّة" سيرتدّ على النظام السوري في نهاية المطاف. كيف ذلك؟

من المعروف أنّ تركيا على علاقة جيّدة مع ​أكراد العراق​، لكنّها على علاقة سيّئة مع ​أكراد سوريا​، وعلى علاقة مُواجهة مفتوحة مع "​حزب العمال الكردستاني​" التركي، وهي تخشى مع توسّع سيطرة الجماعات الكرديّة المُسلّحة في سوريا، وتحديدًا على طول الخط الحدودي معها، أن يتشجّع السُكّان الأكراد الأتراك على الإنفصال، خصوصًا وأنّ ثقل أكراد تركيا يتواجد في مناطق حُدوديّة في الجزء الشرقي والجنوب الشرقي من الجمهوريّة التركيّة. وبعد وقوع المناطق السوريّة الحُدوديّة المُقابلة بيد جماعات كرديّة مُسلّحة، تضاعف خوف أنقره من قيام دويلة كرديّة مُستقلّة، من شأنها حتمًا أن تُشجّع أكراد تركيا على الإنفصال عاجلاً أم آجلاً. وهذه الخشية هي التي تدفع النظام التركي إلى التشدّد إزاء المُستجدّات الحاصلة على حُدودها، باعتبار أنّ توسّع المساحة الجغرافيّة الحدوديّة التي يُسيطر عليها أكراد سوريا يتجاوز مسألة قطع خطوط الإمداد من تركيا إلى العمق السوري، ويبلغ مرحلة تهديد الأمن القومي التركي نتيجة حال العداء التاريخي بين الطرفين.

ومن الضروري الإشارة إلى أنّ إستخدام النظام السوري "الورقة الكرديّة"، لجهة تسهيل سيطرتها على أوسع مساحة حُدوديّة مُمكنة عبر ضرب وإضعاف الجماعات التي يُقاتلها الأكراد، من شأنه أن يُكسب النظام السوري على المدى القصير، كونه سيزيد حال الإرباك التي تعيشها أنقره، وأن يحدّ من قدرات الجماعات المُسلّحة الموالية لها، أو التي تلقى الدعم اللوجستي منها، وأن يتسبّب بمواجهات بين الجيش التركي والأكراد تزيد حال العداء بين الطرفين. لكن على المدى الطويل، إنّ زيادة إستقلاليّة وقوّة أكراد سوريا لن يكون قابلاً للعودة إلى الوراء. بمعنى آخر، إنّ أكراد سوريا الذين تعرّضوا للإضطهاد وللقتل في تركيا في مطلع القرن الماضي، وإضطرّوا إلى اللجوء إلى سوريا حيث جرى تهميشهم ومُعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية من قبل السلطات السوريّة حتى الأمس القريب، لن يرضوا يأن يخضعوا مُجدّدًا لأيّ سلطة لا تمنحهم حُقوقهم العرقيّة كاملة. وبالتالي، إنّ النظام السوري الفرح حاليًا بالقلق الكبير الذي تعيشه تركيا، نتيجة الزيادة المُضطردة لقوّة الأكراد، سيكون في المستقبل القريب أمام خطر منح تركيا الحجّة المطلوبة للتدخّل أكثر في الحرب السوريّة، بذريعة حماية حدودها، عبر زيادة الدعم اللوجستي للجماعات المُؤيّدة لها، وكذلك عبر خيارات أخرى محتملة أكثر فعاليّة على الرغم من النفي التركي المُتكرّر بأنه لا يوجد أيّ تدخّل ميداني قريب. وسيكون في المُستقبل البعيد أمام خطر أكبر يتمثّل في إحتمال التعرّض لضغوط محلّية ودوليّة لتقبّل إنفصال أكراد سوريا في دويلة مُستقلّة. وعندها سيُفتح الباب واسعًا أمام تقسيم سوريا، بحيث لن يكون لكل الإنتصارات الميدانيّة الحالية للنظام، أيّ أهميّة بالمعنى الإستراتيجي، باعتبار أنّه سيطغى عليها نجاح "المشروع-المُؤامرة"-كما يُسمّونه، والقاضي بتحويل سوريا إلى دويلات صغيرة وضعيفة ومتناحرة في ما بينها، ولو بعد حين.

(1)يُقدّر عدد الأكراد في سوريا بنحو 10 % من إجمالي السكّان، ونصفهم لا يزال محرومًا من حمل الهويّة السوريّة، علمًا أنّ عددًا كبيرًا من الأكراد كانوا لجأوا إلى سوريا هربًا من القمع الذي تعرّضوا له في تركيا بعد ثورة فاشلة قاموا بها في العام 1925.

(2)في طليعتها مدينة "عين العرب"، علمًا أنّ ثقل التواجد الكردي في سوريا يشمل إلى "عين العرب"، كلاً من القامشلي والحسكة وعفرين ورأس العين وجرابلس.