تقف اليوم منطقة ​الشرق الأوسط​ على شفير المواجهة الشاملة، ربما تقود معاركها المتنوعة، بحسب بعض التحذيرات، إلى إندلاع حرب عالمية ثالثة، لا سيما إذا ما أصرت مختلف القوى الإقليمية والدولية على مواقفها المعلنة، ما يعني وضع كل "الرهانات" على "طاولة المقامرة"، لكن ما ينبغي التنبه له، هو أن بعض المدن قد تكون أساسية في رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد، التي يجري العمل على بلورتها منذ شهر تموز من العام 2006، أي تاريخ الحرب الإسرائيليّة على لبنان.

تحت عنوان مكافحة الإرهاب، المتمثل بتنظيم "داعش" الإرهابي دون غيره من الجماعات المتطرفة، يحدد اللاعبون الإقليميون والدوليون سياساتهم في هذه المنطقة الإستراتيجية، وهم يبدون الإستعداد لدفع أثمان طائلة من أجل حفظ مصالحهم، من دون أن يضعوا في حساباتهم خيار التراجع خطوة إلى الوراء، ما يظهر من خلال التدخل الروسي المباشر في الحرب، والإعلان السعودي-التركي عن الرغبة في إرسال قوات برية إلى أرض المعركة، بالإضافة إلى الدور ال​إيران​ي الذي كان قد سبق الجميع إلى حجز الموقع.

وسط هذه الدوامة الكبيرة، لا يمكن إغفال الدور الأميركي الغامض، من وجهة نظر البعض، فالولايات المتحدة اليوم تراهن على أكثر من ورقة، ما يضمن لها الخروج رابحة مهما كانت النتيجة، من دون أن تكون مضطرة إلى إرسال الآلاف من الجنود، أو دفع أموال طائلة من خزائنها، فهناك من يخوض المواجهة باسمها، ومن لا يستطيع أن يبتعد في خياراته عنها مهما تبدلت الأوضاع، على نحو سلبي أو إيجابي.

على هذا الصعيد، تظهر 3 معارك رئيسية ستكون عنوان المرحلة المقبلة، على الصعيدين العسكري والسياسي، ​الموصل​ و​الرقة​ وحلب، والأخيرة كانت قد بدأت منذ أشهر قليلة، لكن حدّتها كانت قد إرتفعت على نحو غير مسبوق قبل أيام، نظراً إلى أنها دخلت مرحلة الحسم، التي قد تؤدي إلى خسارة الحكومة التركية كامل أوراقها، بعد أن كان الجيش السوري، مدعوماً من سلاح الجو الروسي، قد نجح في السيطرة على منطقة ريف اللاذقية.

الخطوط الحمراء التي تضعها أنقرة، على سيطرة قوات "حماية الشعب الكردي" على المنطقة الممتدة من جرابلس إلى ​أعزاز​، لا تتعلق فقط بإمكانية القضاء على قوى المعارضة المسلحة المدعومة من قبلها، بل تشمل أيضاً سيطرة من ترى فيهم تهديداً لأمنها القومي على كامل حدودها مع سوريا، ناهيك إسقاط معادلة المنطقة الآمنة التي سعت إليها منذ اليوم الأول لبدء الأزمة، بسبب رغبتها بأن تكون بوابة نفوذها نحو الشرق، في ظل الفشل في الدخول إلى "جنة" الإتحاد الأوروبي، إلا أن مغامرة إسقاط الطائرة الروسية أدخلتها في النفق المظلم، ما دفعها إلى الرهان على الحماية الأميركية، بسبب عضويتها في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، في حين أن واشنطن لا تعتبر التدخل لمواجهة ​الأكراد​ أولوية بالنسبة لها، فهم حلفاؤها، كما أن إدارة الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​ لا ترغب بالدخول في صراع مع موسكو، خصوصاً أن "الكانتون" الكردي لا يتعارض مع مصالحها.

بالنسبة إلى مدينة الموصل في العراق، كانت تركيا قد عملت قبل أشهر على إستباق معركتها، عبر إرسال قوات برية خاصة إلى معسكرات تقع بالقرب منها، بهدف حجز موقع لها بالمعادلة السياسية فيها في المستقبل القريب، نظراً إلى أن العمليات العسكرية هناك، تجري على قاعدة إدارة المناطق المحررة من قبل القوى التي تقود معاركها، في وقت لا تزال حكومة بغداد تبدي إعتراضاً مرناً على وجود هذه القوات، من دون أن تلجأ إلى أي خطوة تصعيدية، في حين لا تجد الولايات المتحدة أي مشكلة في هذا الواقع، خصوصاً أن هذا الأمر لا يعارض مصالحها، فهي أيضاً تشجع خيار إبعاد قوات "الحشد الشعبي"، المدعومة من إيران، عن المواجهة التي تقع في مناطق ذات أغلبية سنية، بهدف تكريس معادلة الدولة الفيدرالية القوية.

بالتزامن مع معركتي الموصل وحلب، بدأت التحضيرات بشكل مكثف لمعركة تحرير الرقة، أحد أهم معاقل تنظيم "داعش"، والتي تمثل عنواناً بارزاً في الحرب على الإرهاب، حيث يسعى الجيش السوري إلى الوصول إليها قبل غيره، بهدف إسقاط كل مخططات التقسيم التي ترسم في دوائر صنع القرار الدولي، بالتزامن مع سعي السعودية وتركيا إلى أن تكون بوابة إرسال القوات العسكرية البرية، التي لم تتخذ الولايات المتحدة موقفاً واضحاً منها، لكن في الوقت عينه لم تعارضها بل أرسلت قواتها الخاصة لتولي مهمتي التدريب والإستشارة، وتوقعت على لسان وزير دفاعها آشتون كارتر مشاركة قوات سعودية وإماراتية في تحرير الرقة.

في هذا السياق، تبدو الأهداف التركية والسعودية واضحة، وهي حجز موقع واضح في أي تسوية مقبلة، سواء كان ذلك من خلال سوريا موحدة أو مقسّمة، على أنقاض "الدولة" التي فُتح المجال أمام "داعش" لبنائها على مدى السنوات السابقة، لا بل قُدِّمت له مختلف أنواع التسهيلات للإنطلاق نحو معركة "كسر الحدود" وإعلان "الخلافة"، لكنها تصطدم بالسقف العالي الموضوع منهما، لناحية الإصرار على رفض أي حل سياسي لا يتضمن رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، مقابل الرغبة الروسية في الحفاظ على موقعه مهما كان الثمن، فهل تقدمان على التنازل بهدف الحفاظ على ما يحفظ ماء وجههما إقليمياً؟

في المحصلة، المعارك الثلاث ستكون مصيرية، بالنسبة إلى مستقبل منطقة الشرق الأوسط، نجحت كل من ​روسيا​ والولايات المتحدة، بالإضافة إلى إيران، في حجز موقعهما فيها مهما تبدل الواقع الميداني، فهل تنجح الرياض وأنقرة في ذلك، أم تستمران على المنوال نفسه، لا سيما أن واشنطن غير متحمّسة لتغطية أي خطوة متهوِّرة غير محسوبة النتائج منهما؟

كل ذلك لا يعني إغفال الدور الإسرائيلي، في ظل السعي إلى إعادة تحريك الجبهة الجنوبية، في الأيام الأخيرة، لكن الجيش السوري نجح في صدّ الهجوم الذي شنته المجموعات المسلحة، على خطّ جبهة القنيطرة ابتداءً من الصمدانية الشرقية، تل كروم جبا، تل البزاق، رجم الصيد، تل الجبل وتل قرين.