لا شك في أنّ هذه الدول الثلاث سوف تدخل سجل تاريخ العلاقات الدولية باعتبارها الأراضي التي حصلت عليها أكبر انعطافات في النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

ـ كوريا: شهدت السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية انتهاء ظروف النظام الدولي الذي كان قائماً إبان الحرب. ذاك النظام كان اسمه «نظام التحالف الدولي ضدّ النازية» وكان تحالفاً بين الزيت والنار كليهما، أيّ المعسكر الغربي والاتحاد السوفياتي معاً.

كانت شبه الجزيرة الكورية الأرض التي انفجر عليها التحالف وبدأ الصراع بين «الشرق» و «الغرب» 1949-1952 فتقاسم هذان القطبان الجزيرة وشعبها، وما زال هذا الشعب مقسوماً حتى الآن منذ أكثر من ستين عاماً. ولقد زرت قبل عقدين الخط الفاصل بين الكوريتين، وهو الخط الأكثر سخونة في العالم، وشاهدت كيف وجد الأب نفسه في «كوريا الشمالية» والابن في «كوريا الجنوبية».

كانت شبه الجزيرة المستشفى الذي حشرج فيه النظام القديم محتضراً وخرج فيه النظام الجديد ثنائي القطب مولوداً مع كلّ ما في الولادة من آلام. تحمّل الشعب الكوري الواحد آلام موت ذاك وولادة هذا سواء بسواء، أكثر من مليون وربع المليون قتيل، وما زال الشعب الواحد يعيش في دولتين عدوّتين.

ـ يوغوسلافيا: مع الانهيار المذهل للاتحاد السوفياتي بدأ ثنائي القطب حشرجة الاحتضار. في الوقت نفسه بدأت آلام ولادة «أحادي القطب». الشعب الذي وقعت عليه القرعة ليدفع الثمن هو شعب يوغوسلافيا 1990 -1995 . النتيجة كانت حوالي مليون قتيل ما عدا الدمار الكبير. وإذا كانت كوريا انشطرت نصفين فإنّ يوغوسلافيا انقسمت ست دول إضافة إلى كوسوفو.

ـ سورية: الانتقال من أحادي القطب إلى نظام عالمي جديد يتمّ على الأرض السورية. هنا في «المستشفى السورية» سيموت نظام ويولد آخر، وعلى الشعب السوري أن يعاني من حشرجة احتضار الأول وآلام ولادة الثاني. ويبدو أنّ الاحتضار انتهى وبدأت آلام ولادة الطفل الجديد الذي لن يكون نظاماً ثنائي القطب ولا متعدّد الأقطاب وإنما نظاماً من نوع جديد تتداخل فيه العلاقات وتتشابك في اتجاهات عدة…

المهم أنّ الحالة السورية تختلف جذرياً عن الحالتين الكورية واليوغسلافية في أنّ الدولة في دمشق بقيت قائمة مع مؤسساتها وأهمّهما في حالة الحرب مؤسسة الجيش. ولو أنّ الدولة انهارت كما حدث في كوريا ويوغسلافيا لاقتسم الأطباء المستشفى ولأصبح لدينا اليوم سوريتين على الأقلّ.

فرضت الدولة السورية على واشنطن وموسكو إشراكها في العملية، لأنها صمدت وأثبتت وجودها على الرغم من المصاعب التي تعيشها. الدليل على أنّ الدولة السورية شريكة في موت نظام وولادة نظام هو أنّ جميع قرارات الأمم المتحدة التي تمثل وفاق الأميركيين والروس تؤكد بالعربي الفصيح على سيادة سورية ووحدتها، من القرار 2043 نيسان 2012 وحتى القرار الأخير 2254. لا بل إنّ النص المكرور أتى على الشكل التالي «يؤكد مجلس الأمن التزامه القوي بسيادة سورية ووحدتها إلخ…» لاحظ هنا مصطلح «القوي» الذي يشير الى أنّ حضور الدولة السورية كان هاماً.

تطوّر هذا الاعتراف «المفروض» بالدولة السورية تطوّراً نوعياً في الآونة الأخيرة. فالقرار 2253 البند 12 يطلب بصراحة من جميع دول العالم «التنسيق مع الدول التي تحدث عمليات إرهابية على أراضيها» وفي هذا إشارة واضحة الى سورية الدولة التي على الجميع التنسيق معها. أما القرار 2254 فقد أكد أنّ «السلطات السورية هي المسؤولة الرئيسية عن حماية مواطنيها»…

المولود الجديد أيّ النظام العالمي الجديد وسورية الجديدة ستكون الدولة السورية واحدة من القابلات القانونيات اللواتي أشرفن على الولادة… والباقي تفاصيل. هل يكمن فيها الشيطان أم لا…؟ هذا هو التحدّي الحقيقي اليوم أمام سورية.

وزير وسفير سوري سابق