أوباما في هافانا… لعلّ هذا العنوان يصلح لقصة خيالية أكثر مما يصلح لحدث سياسي مدهش. ثم ألم تكن قصة خيالية أن يصبح أحد الملوّنين رئيساً للولايات المتحدة؟ هل هي الواقعية الصادمة أم انّ العالم فعلاً يتغيّر؟

من يراقب مواقف واشنطن وسياساتها يشعر بأنّ العالم لا يتغيّر أبداً… وإنْ كان هناك ثمة تغيّر فهو نحو الأسوأ على ما يبدو. فالدولة العظمى المنتشية بزوال «مملكة الشرّ» السوفياتية صالت وجالت في العالم منتهكة أبسط حقوق الشعوب ومحطمة حضارات بكاملها العراق وكأنها «فيل هائج يحطم أواني خزفية قيمة»، وهذا التعبير لرئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف.

بوش… الحضور المباشر

ثلاث مراحل شهدتها الاستراتيجية الأميركية تجاه العالم بعد انهيار «الوحش الشيوعي». المرحلة الأولى أسّسها جورج بوش الابن وتقضي باستخدام الحروب المباشرة ضدّ الشعوب والدول «المتمرّدة». قام بوش بإرسال قواته لتحطيم «الخزف العراقي» دون رحمة، قاضياً على واحد من أهمّ بلدان الشرق الأوسط، البلد الذي علّم البشرية فنون الريّ قنوات بابل والقانون مبادئ حمورابي التي تحوّلت إلى الوصايا العشر اليهودية، وأصبحت أساساً للفكر القانوني في جميع المراحل حتى يومنا هذا.

العراق وأفغانستان كانا ضحية الفيل الهائج والحضور المباشر للقوات الأميركية في ما اعتيد على تسميته بالعالم الإسلامي . ملاحظة: هل هناك عالم مسيحي أو بوذي أو يهودي أو هندوسي حتى يكون هناك عالم إسلامي؟

أوباما… الحضور بالوكالة

مع أوباما تراجعت استراتيجية الحضور المباشر للقوة الأميركية. ووجد أوباما – الذي لا تنقصه الحنكة والذكاء أنّ الإرهاب يمكن أن يكون مفيداً في تحقيق أهداف الولايات المتحدة دون خسارة جندي أميركي واحد. هكذا نشأت مرحلة الحروب بالوكالة، حروب أداتها الإرهاب وتمويلها خليجي، وما على واشنطن سوى جني الثمار.

«الربيع العربي» بكلّ مآسيه كان ساحة تطبيق «الحروب بالوكالة». لكن هذه الحروب على الرغم من الآلام الرهيبة والتدمير الممنهج لم تنه المسألة تماماً. هي حققت أهدافاً نوعية للولايات المتحدة، مثل الحلف الجديد في طريق الإنشاء بين «إسرائيل» وبعض دول الخليج وبعض أعضاء جامعة الدول العربية. وهذا هدف لم تكن تحلم به «إسرائيل» قبل سنوات.

لكن الصمود السوري المدهش وما بُنيَ عليه من دينامية روسية جديدة وديبلوماسية إيرانية قادها الرئيس حسن روحاني أدّى إلى وقف هذا الزحف غير المقدّس للهجمة الأميركية على الشرق الأوسط.

أوباما… القوة الناعمة

هذا الوضع بدأ يطرح أسئلة جديدة على واشنطن: هل استنفذت الحروب بالوكالة كلّ طاقاتها ووصلت إلى حدودها التاريخية، حيث الاستمرار قد يكون غير مجدٍ؟ وهل ترضى الولايات المتحدة بهذا القدر من المكاسب وتتجه إلى استراتيجية جديدة لتحقيق أهدافها… استراتيجية «القوة الناعمة»؟

هناك صراع اليوم في الايستابلشمنت الأميركي بين تيارين، أحدهما لا يزال يصرّ على القوة الخشنة والآخر يحبّذ القوة الناعمة. في القسم الأول تقع غالبية الكونغرس وإلى حدّ ما وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع الجديد آشتون كارتر علماً أنّ وزراء الدفاع الثلاثة السابقين كانوا في عداد الحمائم .

يبدو أنّ أوباما نفسه يميل إلى «الحمائم» ويبتعد شيئاً فشيئاً عن «الصقور». هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أركان الجيش الأميركي والمخابرات العسكرية D I A هم من بين الحمائم بينما وزير الدفاع و C I A من بين الصقور.

في خطابه الشهير أمام الكونغرس بعد توقيع الاتفاق مع إيران، قال أوباما إنّ الاتفاق سيسهم في فتح أبواب المجتمع الإيراني «كي نغيّره من الداخل». هذا يشير إلى أنّ القوة الخشنة المقاطعة لم تنجح وأنه لا بدّ من اتّباع القوة الناعمة.

هذا هو ما دفع بأوباما للحجّ نحو هافانا. في المطار قال الرجل ما معناه إنّ الانفتاح على كوبا سيسهم في ترويج «القيم الأميركية» بين أبناء الشعب الكوبي. وفي خطابه الذي ألقاه بحضور الرئيس الكوبي بدا أوباما عادلاً في التوصيف، لكنه لم يُخف في المقارنة بين النظامين الكوبي والأميركي تأكيده أنّ النظام الأميركي «أنموذج ينبغي أن يُحتذى».

إنها القوة الناعمة التي بدأ أوباما يعتقد أنها الحلّ الأفضل، ليس لأنّ الحروب بالوكالة فشلت… وإنما لأنها أتت أُكُلَها وانتهى دورها. وفي كلّ الأحوال فإنّ القوة الناعمة أقل سوءاً من القوة الخشنة على الرغم من أنّ القوتين هدفهما واحد…

وزير وسفير سوري سابق