قبل ثمانية أشهر دخل التنظيم الإرهابي «داعش» إلى تدمر وأفسد أمنها من أجل إلحاقها بدويلته المزعومة التي أطلقها في سياق خطة العدوان الصهيو—سعود-أميركي على المنطقة لاستباحتها واستعمارها ونشر الفكر التدميري فيها الذي من شأنه أن يدخلها في حروب لا تنتهي تحت عناوين دينية واثنية مختلفة.

وباحتلال تدمر اطمأن التنظيم الإرهابي مع رعاته ومموليه الإقليمين والدوليين إلى «أن سورية المعروفة انتهت» وباتت الحلول للخروج من أزمتها تتردد بين إسقاط سورية كلها بيد المعتدين أو تقسيمها ليكون للعدوان القسم الأكبر منها في المساحة والأقل بالسكان والأغنى بالثروة النفطية.‏

هكذا خططوا ولكن كان لسورية رد آخر يعاكس خططهم، فبعد الصمود الأسطوري الذي نفذته سورية طيلة 54 شهراً خططت لمعركتها الدفاعية بشكل مختلف عما سبق معتمدة العمليات الهجومية أساساً للدفاع تطبيقاً لنظرية القتال المشهورة «الهجوم في معرض الدفاع» وبنت خططها القتالية الجديدة على استراتيجية الحرب الشاملة والجبهات المتعددة والمحاور المتناغمة، الاستراتيجية التي وفرت لها المساعدة النارية الجو فضائية الروسية ظروفاً أفضل للنجاح، وبالتالي وما إن اعتُمدت حتى انطلق الجيش في عمليات عسكرية واثقة وحقق إنجازات مهمة في الجنوب والوسط والشمال وظلت المنطقة الشرقية «بعيدة» عن ميدان العمل العسكري السوري المؤثر باستثناء بعض الضربات الجوية التذكيرية، فظن الخبثاء والمغرضون أن الحكومة السورية سلمت بالأمر الواقع واكتفت بالعمل في المنطقة غربي خط حلب سويداء، ثم جاء القرار بوقف العمليات القتالية في سورية وتبعه القرار الروسي بتقليص القوات الروسية من سورية ليعزز للظن لدى هؤلاء.‏

جاء كل ذلك ليبلور حال من الطمأنينة لدى المجموعات الإرهابية ورعاتهم المستثمرين في إرهابهم، بأن المثلث السوري الشرقي المتشكل من تدمر ودير الزور والرقة (العاصمة المفترضة لدويلة داعش المزعومة) بات بمنأى عن أي خطر خاصة أن الدفاعات في تدمر خططت ونفذت وفقاً للنظرية الأمنية الصهيونية في التحصين والقائمة على نظرية الأحزمة الأمنية المركبة والمستندة إلى السواتر والخنادق وأنفاق الاتصال وحقول الألغام والأشراك لإعاقة التقدم مع مراكز القنص للأخذ عن بعد فضلاً عن التنظيم الدفاع الداخلي وفقاً للقاعدة الإسرائيلية «كل بيت مركز قتال» ضمن مربعات ذات كفاية بالذات مع قدرة على الإسناد المتبادل وتلقي الدعم من قوات تستقدم من الخارج. وباختصار كانت إسرائيل حاضرة في تدمر بخبراتها العسكرية وإشرافها المباشر نظراً لأهمية تدمر في حماية «دويلة داعش المزعومة» التي كما قال أحد المواقع الإسرائيلية: لا تنظر «إسرائيل» إليها كعدو ومصدر تهديد بل كحليف وصديق يعملان معا ضد عدو مشترك هو المقاومة ومحور المقاومة.‏

هذا عسكرياً أما سياسياً واستراتيجياً فقد كانت منظومة العدوان تعول على المنطقة الشرقية وتدمر رأس حربتها ومحل خطوطها الدفاعية المتقدمة والأساسية لتتخذها ورقة ضغط وابتزاز لسورية ولاستنزافها ولهذا قالت أميركا إن الحرب على داعش تتطلب ما بين 3 و10 سنوات، في موقف أذهل العسكريين الذي يعرفون طاقات أميركا وطاقات داعش لكنه لم يفاجئ العارفين بحقيقة العلاقة البنيوية بين داعش وأمها القاعدة مع أميركا وجهاز مخابراتها الـ «سي آي اي».‏

يبقى أن نذكر بأهمية المنطقة الشرقية السورية وتدمر رأس مثلثها المتقدم غرباً على بعد 150 كلم من حمص، أهميتها في عمليات داعش في العراق ونذكر بأن 500 إرهابي انطلقوا من المنطقة الشرقية السورية وتوجهوا إلى الموصل العراقية فأسقطوها من غير قتال بسبب ما رافق الغزوة من حرب نفسية وتصوير اسطوري لـ«داعش» قام به إعلام القوى المعادية.‏

في ظل هذا المشهد ذي الفرادة المميزة وذي الدلالات البليغة على كل الصعد، قررت القيادة السورية خوض معركة تدمر، ووضعت خطة هجوم خاصة تراعي الكثير من التقييدات والمحاذير التي من شأنها التمكين من تنفيذ العملية الهجومية مع مراعاة خصوصية المنطقة الأثرية والمدنية, تقييدات باستعمال النار والقصف التمهيدي، حيث كان على القيادة أن تتجنب النار الكثيف التدميري وتعتمد أسلوب النار الانتقائي المرن، وتعتمد على حركة القوى المحترفة وقوات النخبة للتعامل مع الأحزمة الأمنية وتتغلب على الأفخاخ التي تعوق التقدم لتجنب الوقوع في فخ الحرب الطويلة ذات الثمن الباهظ . بمعنى أن الجيش كان عليه أن يوجه هدفاً معقداً بمناورة مقيدة. فقبل التحدي وخاض المعركة وأنجزها في أقل من أسبوع في الوقت الذي كانت قوى العدوان تتصور أن أشهراً طويلة لن تكفي لإنجازها ثم أنها ستجعل القوى السورية المهاجمة تضيع في البيداء. لكن الجيش العربي السوري مع القوات الحليفة والرديفة قبل التحدي وخاض الميدان وانتصر نصراً قلَب المشهد رأساً على عقب وخرج من المعركة مع كثير من العِبر والدروس والرسائل التي منها:‏

ستراقب «إسرائيل» عن كثب ما جرى في تدمر وكيف أن القوى المهاجمة والتي شاركت فيها فصائل من المقاومة، كيف أنها استطاعت التعامل مع الأساليب الإسرائيلية في الدفاع عن المجموعات السكنية وكيف أنها اكتسبت خبرات إضافية يمكن استعمالها إذا وضع موضع التنفيذ قول السيد حسن نصر الله بأن على المقاومين أن ينتظروا ولا يتفاجؤوا إذا تلقوا الإشارة لاقتحام الجليل الفلسطيني المحتل.‏

ستجد داعش نفسها تتحول من قوى تملك قدرات قتالية تمكنها من المناورة الهجومية والعمل في منطقة ذات مساحة شاسعة إلى قوى مقيدة بالعمل على محور محدد بخط الرقة -دير الزور (حيث يوجد الجيش العربي السوري أيضاً) مع مخاطر قطع الاتصال بين المنطقتين وحرمان الإرهابيين من حرية المناورة ومن الإسناد المتبادل ونقل القوات وتحشيدها حيث الخطر الأكبر.‏

ستفتح الطريق أمام تحرير ما تبقى من المنطقة الشرقية خاصة دير الزور والرقة، كما أشار بيان القوات المسلحة السورية، لأن المعركة هناك ستكون أسهل من معركة تدمر نظراً لما سبق وذكرناه من تحول وانقلاب في المشهد العسكري.‏

ستجدد داعش نفسها أنها باتت وبعد الانهيار الدراماتيكي لمعنوياتها وقدراتها الدفاعية رغم التحصينات، ستجد نفسها أنها باتت بين فكي كماشة شرقاً من العراق وغرباً من سورية، الأمر الذي ستستفيد منه القوات العراقية في حربها ضد داعش وسيلقى ذلك الصدى السريع في الهيت أولاً وفي الموصل بعده.‏

ستجد أميركا أن حرب الاستنزاف التي خططت لها قد دفنت في سورية وأن الاستثمار بالإرهاب لن يجدي وهنا يفهم ما ألمح إليه المرشح للرئاسة الأميركية الجمهوري ترامب حيث قال إنه من الغباء أن نقاتل داعش والأسد معاً، فالأسد لا يشكل خطراً على أميركا وإنما الخطر يتمثل بداعش.‏

أما لمن تاجر بقرارات أو تفسيرات تتصل بوقف العمليات القتالية أو بتقليص المساعدة الروسية لسورية، فإن إنجاز تدمر أبلغه رسالة حاسمة بأن في سورية دولة عميقة وقوية تعرف كيف تعقد تحالفاتها مع حلفاء صادقين وتمارس حربها ضد الإرهاب وماضية فيها دون هوادة وأن روسيا مستمرة في دعمها بالقدر والنوع الذي يتطلبه الميدان ووفقاً لحجم الأخطار ولكن الأصل في المواجهة هو ما تمتلكه سورية بذاتها من قوة مع محور المقاومة وتأتي المساعدة الروسية لتضيف قيمة مؤثرة وتحدد في حجمها وفقاً للضرورة الميدانية دونما أي اعتبار آخر.‏

أما المعنيون بالعملية السياسية أو المسار السياسي فإنهم إن أعملوا العقل قليلاً هذا إن وجد، فإنهم سيخرجون بنتيجة واحدة أن كل مناوراتهم وكل تخرصاتهم لن تجد لها محلاً للنجاح والأعمال وعليهم إما أن يقبلوا بالواقع ويسلموا بأن في سورية دولة عميقة قوية يجب التعاطي معها وفقاً للأطر الدستورية والقانونية واحترام الإرادة الشعبية في كل شيء، أو يستمرون في تيههم خارج الميدان دونما جدوى.‏