على عجل، انتقل ضابط سوري رفيع المستوى من دمشق الى تدمر للوقوف عند ‏التجاوزات الاعلامية التي تسبّب بها النقل المباشر للمعارك حول المدينة، والذي لم ‏يأخذ بعين الاعتبار أنّ المشاهد التي تُنقَل على الهواء تكشف مواقع ​الجيش السوري​‎ ‎وتساعد تنظيم "داعش" على تحديد مواقع تجمع القوات. ‏

أكثر من خمس ساعات استغرقت الرحلة التي امتدّت على أكثر من 300 كلم، ‏بينها 100 كلم على الاقل في مناطق صحراوية قاحلة تحيط بها جبال وتلال ‏ومساحات شاسعة من السهول المقفرة، وصولاً الى حواجز للجيش شرق مدينة حمص ‏لا يمكن تجاوزها الا بأمر مهمة صحفية او عسكرية، فمنطقة تدمر اصبحت منطقة ‏عسكرية بالكامل.‏

على طريق الذهاب والاياب قبل الوصول الى المدينة التاريخيّة، لا شيء يتحرك ‏سوى اليات عسكريّة وعربات مصفّحة وسيارات رباعية الدفع غالبيتها تحمل مدافع ‏رشاشة ومن بينها آليات حديثة. الطيران المروحي والحربي لا يغادر المنطقة، ‏تمشيط مستمر لمنع أي خرق في مساحات شاسعة لا يمكن ضبطها بسهولة.‏

هنا، يلفت الضباط إلى أنّ كلّ الأقاليم موجودة في سوريا، من البحر إلى الجبل ‏والسهل والصحراء، وكلّها لا تبعد كثيراً عن بعضها كما هو حال باقي الدول، ولعلّ ‏هذا هو ما يجذب السواح، ومنهم الاوروبيون الذين يفضل معظمهم زيارة الصحراء ‏وخوض المغامرات ومشاهدة ​مدينة تدمر​ عروس البادية. ويشرح بان لكل جغرافيا ‏طابعها واهميتها، مشيراً إلى أنّ معركة الصحراء والجبال تختلف عن غيرها من ‏المعارك التي خاضها الجيش، وان كانت طبيعة المنطقة في شرق حمص تشابه ‏قليلا القلمون، لكن هنا يغلب الطابع الصحراوي والرمال، مؤكداً في الوقت عينه أنّ ‏المعركة ضد "داعش" لها وقعها وليست كباقي المعارك.‏

عند الوصول الى محيط تدمر، يستدعي الضابط المراسلين ويشرح لهم مخاطر ما ‏يجري من نقل مباشر للمعارك ويطالبهم بالحذر وتحمل المسؤولية والالتزام بضوابط ‏الاعلام الحربي. ومع انتهاء النهار، كان له ما اراد، حيث لم يسجل اي خرق، ‏لتُعلَن بعد ساعات، وتحديداً عند الغروب، السيطرة على قلعة تدمر ومن بعدها بلدة ‏العامرية، ويبدأ التحضير لمعركة اقتحام المدينة.‏

بعد اقل من أربع وعشرين ساعة، دخل المراسلون في الصراع ما بين المسؤولية ‏والحذر وما بين نقل مشاهد المعركة على الهواء. صعد الجميع الى تلة قلعة تدمر ‏حيث كانت المعركة تشتعل شيئًا فشيئًا في الاسفل. لم يستمر الصراع طويلاً، فقد ‏اخذ الجميع على عاتقه المخاطرة وفتحت القنوات بثها الحي للمعركة. لم يلتزم احد ‏بالتعليمات بل تنافس الإعلام على من يظهر تفاصيل المعركة الدائرة، وكان ‏الضابط الرفيع عند التلة يراقب ما يجري. ‏

كان الحدث اكبر من الجميع وأهم من كل التحذيرات وقواعد الاعلام الحربي ‏وضوابطه، اذ تُرك للعالم اجمع ان يشاهد على الهواء هزيمة اقوى تنظيم ارهابي في ‏العالم امام الجيش السوري، وهو ما عجزت عنه قوات التحالف الدولي مجموعة، لم ‏يكن في وسع احد ان يضبط نفسه وهو يشاهد تقهقر العناصر الارهابيّة امام ‏مجموعات من القوات السورية.‏

من تلة القلعة، كانت الصورة تكسر هالة العناصر الداعشيّة وتسحقها، كل شيء ‏تبدّل، فمن كان سابقًا يرتعد من اسم التنظيم وابتكاره لاساليب القتل تحمّس للمشاركة ‏في المعركة، حتى ان بعض العناصر كان يلوم قادته لعدم زجهم في المعركة حيث ‏تركهم في الاحتياط لدعم المقتحمين عند اللزوم. لم يكن ينقص المشهد سوى صور ‏عناصر "داعش" وهم يفرّون، ولولا انشغال المصوّرين بالتقاط مشاهد المعركة، لأمكن ‏التقاط صور الهروب من شارع الى آخر ومن ثم الى خارج المدينة.‏

سابقا كانت الصورة النمطيّة ان التنظيم يهاجم، يقتل، يسفك الدماء ويلتقط الصور ‏للهاربين ويقتلهم واحدًا تلو الاخر؛ ما بعد تدمر انقلب المشهد، فأصبح الداعشي هو ‏الهارب بسرعة ويخاف الموت، لا بل شاهد جميع من كان على التلة كيف تقدّم ‏عناصر القوات السورية في العراء على دراجات نارية قبل وصولهم الى نقاط ‏يحتمون خلفها عند اطراف المدينة.‏

كانت معركة تدمر معركة الفصل، اذ كان على التنظيم الصمود ولو لبعض الوقت ‏في المدينة حفاظا على هيبته ومعنويات عناصره، لأن سقوطه المدوّي بهذه السرعة ‏سيكون له وقعه على باقي المعارك. سابقًا كُسر التنظيم الارهابي في مطار كويريس ‏امام العقيد سهيل الحسن، وكان فك الحصار عن المطار اعجازاً عسكريًا امام امواج ‏من الدواعش وعشرات العربات المفخخة الا ان وقع استعادة تدمر كان عالميًا.‏

حتى الان لا يرى كثيرون ان نهاية "داعش" اصبحت مسألة وقت، لكن في الواقع ان ‏من يتابع ما يجري داخل مناطق سيطرته يدرك ان ساعته اصبحت قريبة، ففي ‏الرقة ودير الزور تغير كليًا المزاج الشعبي، ومن وقت لآخر تشهد المناطق تحركات ‏لشباب العشائر ضد الارهابيين ومن ثم تهدأ وهو ما كان مستحيلا في السابق، كل ‏من تستطلعه من الاهالي يقول إن الشباب بانتظار ساعة الصفر والدعم بالسلاح. ‏

لم يعد احد منهم يحتمل ممارسات التنظيم الارهابي، لا احد ينكر انه في السابق ‏كان قسم من الاهالي يتعاطفون مع التنظيم، والمثال تدمر والقريتين. ففي تدمر، ‏كانت بعض العائلات تأوي عناصر "داعش" وعند ساعة الصفر سيطروا على ‏المدينة، وفي القريتين بايع المسلحون التنظيم. اما الان فالجميع طاله ظلم "داعش" ‏وافكاره العائدة الى ما قبل الاسلام من منع لكل شيء وسفك للدماء والسبب غب ‏الطلب.‏

ختم الضابط زيارته دون ان يتخذ اي اجراء بحق احد، انتصار الجيش حققه ‏بالتضحيات والخطط المحكمة. اما كسر صورة "داعش"، فكان للاعلام الدور الاكبر ‏في تظهيرها. وفي طريق العودة، يسألني الضباط مجدّداً: "كيف وجدت الصحراء؟"‏

اجبته كلمة الصحراء تشعرني بالقلق على مستقبل العرب حين اسمع محمود درويش ‏يقول "لا غد في هذه الصحراء الا ما رأينا امس" و"هذه الصحراء تكابد حولنا صحراء من كل الجهات. صحراء تأتينا لتلتهم القصيدة والحساما"، وقرأت ‏احدى الخلاصات للورنس العرب في كتابه اعمدة الحكمة السبع "ان العرب لا ‏يرضون بحلول وسط مطلقا فهم يسعون وراء اراء متضاربة منطقية عدة ليصلوا الى ‏اهداف بسيطة". ‏

اما الان فاقول "داعش من الصحراء اتوا وفي الصحراء سيقتلون"...‏