"إنّ الوضع سَيّء! إنه سيّء جداً: فأنا أشعر بها، وتلك القذارة، ذلك "الغثيان" وهو سيء جداً هذه المرة: فهو يُصيبُني في كُلِّ مرَّةٍ أقرأُ تلك الكلِمات التي تتجمّعُ كالذباب حول الأقلام الجارِحة، لتلدغ هذا وذاك من القُرّاء، وتبني مملكتها على حِساب حياةِ الناس وكراماتهم وأحاسيسهم. لقد سببت لي أقلامكم الغثيان، ومنذ ذلك الحين لم يتركني الغثيان".
أستلُّ بعضاً من أفكار الفيلسوف جان بول سارتر، لأكتُب بعض الأسطر، ولأصف الواقع الذي أوصلنا إليه بعضٌ من الإعلام الأصفر، والأقلام التي تتسلى برشق الناس بكلمات، أَقَلُّ ما يُقالُ فيها، إنّها فارغةٍ من المحبّة. وما هو فارغٌ من المحبّة، فارغٌ من الحقيقة.
ولا أَكتب هذه الأسطر تَمَلُّقاً أو توسُّلاً لِمُقام، أو رغبةً في منصِب، فأنا كاهِنٌ لا تغويني مقامات ملكوت الأرض، وجُلّ ما يُحرّكني في هذا الإتجاه، هو محبّتي الصّافية لبطريركي ولكنيستي.
وبادىء ذي بَدء، أُريد أن أسأل أصحاب الأقلام التي تَستقوي على العقول الضعيفة، فتدُسّ فيها سُمَّ البُغض والكراهية والتحريض على الكنيسة المارونية ورأسها المنظور، وأساقفتها وكهنتها ورهبانها وراهباتها ومؤسساتها، بحجّةِ إحقاق الحقّ والدفاع عن حقوق المؤمنين. حقوق المؤمنين؟! ما هي حقوق المؤمنين؟! أهي الخيرات الروحية، وأعني بها كلمة الله والأسرار؟! أهيَ العبادة الإلهية؟! أهي التربية المسيحية التي تُعدّ المؤمنين للبلوغ إلى النضوج الشخصي والإنساني، وفي آن واحد إلى معرفة سرّ الخلاص والسلوك بموجبه؟
ما هي هذه الحقوق المزعومة التي حَرَم البطريرك أبناءه منها وتسعى أقلامكم إلى استردادها؟! أهي تلك التي فصّلها أحدهم في مقالته الأخيرة، مُدّعياً أنّ الكرسي الرسولي كان ينتظرها، وينتظر بالتالي "ملفاً تُفصّل فيه جداول الشقق السكنية التي وضعتها بكركي في تصرف الشباب الماروني بأسعار زهيدة، والقروض المدعومة التي وفّرتها لهؤلاء من أجل الانطلاق بمشاريع زراعية وصناعية وسياحية صغيرة، وفرص العمل التي وفّرها الصرح وحجم التخفيضات التي طالت أقساط المدارس الكاثوليكية وفاتورة المستشفيات وغيرها"؟ أيعني ذلك، واستناداً إلى اللائحة المذكورة، أنّ الكرسي الرسولي يتعاطى مع الكنيسة المارونية على أساس أنّها دولة قائمةً بحَدِّ بذاتها، وعلى هذه الكنيسة-الدولة أن تَقوم بِما وَجَبَ على الدولة اللبنانية القيام بِه تجاه مواطنيها، فتقدّم لهم ما يُفترض بالدولة أن تُقدّمه من حقوقٍ أساسية؟!
أما كان ينقص تلك اللائحة مُطالبة الكنيسة المارونية أيضاً، ببناء الجسور، وتعبيد الطرقات التي يقع ضحيتها المواطنون يومياً متكبدين خسائر جَمّة في الأرواح والأموال، وحلّ أزمة السير، واستجرار العروض لاستخراج الغاز الطبيعي والنفط من البحر، وتنظيم الإنتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية والإختيارية، وقيادة الدبلوماسية اللبنانية، وتمتين علاقات لبنان بالدول المجاورة، ومواجهة الإرهاب والتطرّف الديني، والإهتمام بأزمة النازحين السوريين، والسعي إلى تسليح الجيش وتأمين مصادر التمويل له من الجهات المانحة، ولمَ لا، العمل على إنشاء قواعد عسكرية لبنانية في هذا البلد أو ذاك؟! أوليس هذا المقصود بعبارة "وغيرها"؟!
أنا لا آخُذ على الأقلام التي تبحثُ عن سَبَقٍ إعلاميّ، والتي متى خُدِشَ حياؤها، راحت تَكتُبُ على غيرِ هُدَى. ولكنني آخُذ على "دود الخلّ" الذي يُغَذّي بِصَمتِهِ هذه الأقلام لكي تَكتُب وتُشَهّر وتَقتُلَ بِدون هوادة ولا حسيبٍ أو رقيب.
إلى هذه الأقلام أقول: هل لديكم مُلاحظات على السيد البطريرك وعلى الكنيسة؟ تعالوا، أُدخلوا من الباب الواسع ، ولا تتسلقّوا السور الخارجي مُحاولين الدخول من النوافذ؛ فَمن يستعمل النوافِذ للدخول، هو لصّ وسارق ليس إلاّ. لِذا، أدخلوا من الباب، وادلوا بدَلوكم في عقر الدار، فلطالما كانت بكركي البيت اللبناني الحاضن للجميع، والقلب المستوعِب لكلّ العيوب، والفكر الذي يقود ويهدي على الصراط المسقيم.
وأنهي بما كتبه جوزف مارتينتّي، قائلاً:"في كلٍّ زمنٍ من الأزمنة، خرج من الناس مَن يدق أجراس الحُزن مُعلناً موت الكنيسة، ولكن دُقّت أجراس الحُزن مُعلِنةً موتهم، وبقيت الكنيسة".