يوم سقط العقد الاجتماعي وتمرّغ وجه جان جاك روسو بالوحول، ما عدنا أبناءَ تراب. ما عدنا نستحق أن نعود الى التراب الذي نذكُر أننا منه. هكذا غدونا في لبنان آلة حربٍ تصطاد الشهداء... شهداء الصدفة. ما عدنا نستحق أن نكون أبناءَ تراب تدوسه جزمات التضحية والشرف والوفاء. ما عدنا نستحق أن نأكل منه مقدّسًا لنُشفى أو أن نغرس فيه زرعَنا لنتقوّت أو أن ننمّي فيه وردَنا لنفرح.

يوم سقط العقد الاجتماعي ومعه سقط العشرات “طيشًا” أصبحنا أبناءَ رصاص، يُنشينا القتل وتُمتِعنا الفُكَر الساديّة. يوم سقط ذاك العقد المتعفّن في رؤوسنا، غير الصالح سوى للهزء والمزايدة، بتنا قلبيْن: أحدهما يطلق الرصاص بلا شفقة أو خشية، وثانيهما يتلقاها في عمقه أو جنباته. يوم سقط ذاك العقد الصالح لديكور منازلنا بتنا دماغين: أحدهما لا يزوره التفكير، وثانيهما تزوره رصاصة من زجاج خلفيٍّ بلا استئذان.

ما عادت دولةٌ تردعنا أو قانونٌ يحمي أحبابنا. ما عادت ذكرى حربٍ تُرعبنا من رصاص القناصة ومن ميليشيا الرصاص العشوائي. ما عادت إنسانية تفتح عيونَنا على أطفالٍ وشبابٍ وكهولٍ يرحلون بالرخص، بسعر الكلفة، برصاصةٍ واحدة لفظتها السماء الى رؤوس بني الأرض وقلوبهم. ما عادت مقابرُنا ولا جبّاناتُنا تتّسع لشهداء الرصاص. ما عاد ترابُنا مستعدًا لاستقبال من رحل “عن غير قصد” لا بل من رُحِّل باستلشاق. ما عاد ترابُنا يطيق كلّ تلك المعادن التي تحفر في أجسادنا وتطيل المكوث لا بل تتعقّبنا الى مثاوينا الأخيرة. ما عادت الرحمة تقطن أفئدتنا ولا الروح تختبئ خفرًا من جروح أجسادنا، ولا العينُ تُخدَش من أشلاءات أعضائنا، ولا اليد ترتجف أمام قساوة أسلحتنا، ولا الفمُ يتمتم صلوات الرحمة والغفران.

ما عدنا شيئًا. ما عدنا حيوانًا لا يفترس إلا عن جوع، ولا حشرةً لا تلسع إلا عن عطش، ولا شجرةً لا تتخلى عن بناتها إلا عندما يحين الحمْل الجديد ويُثقل الحمْل القديم كاهلها. نحن لا شيء، نحن مجرّد هواة رصاص، العيشُ غير جدير بهم. ما عُدنا أمًّا تلطف وأبًا ينهى وأخًا يخشى. قسونا. قسى عُودُنا، قست أيدينا... هي فعلة الرصاص، فعلة حامل الرصاص الذي اقتحم يوميات عرائسنا وشهدائنا.

نحن لا شيء. بل نحن أشيائيون متطفلون لا نستحقّ شيئًا. لم نعد نستحق التقرار. لم نعد نستحق تلك الحياة-الهبة التي لا يجوز الكفر بمانحها لأنه وحده خاطفها. لم نعد نستحق أن نطلّ على شرفاتنا مع كل طلعة شمس. لم نعد نستحق أن نخرج من منازلنا مع كلّ إطلالة قمر. لم نعد نستحق أن نقود سياراتنا ذهابًا وإيابًا. لم نعد نستحق الاحتفال بفوز أو الحزن على خسارة. لا نستحق كلّ ذلك لأننا ما عدنا أبناء حياة بل مجرّد أبناء رصاص يواعد غرائزنا فنحرره على غفلة...

• الى شهداء الرصاص الطائش.