يتغيّر وجه طرابلس كثيراً. طرابلس عاصمة الشمال. والشمال ليس فقط باب التبانة وباب الرمل وباب الحديد وخنّاق حمارو... الشمال ايضا زغرتا وبشري وأميون والبترون والقبيات وعندقت ورحبة ومنيارة ومزيارة وحصرون وعشرات البلدات والقرى المنتشرة في ذرى الجبال وسفوحها والتي يقطنها مئات الألوف من المسيحيين.

وفوق هذا، وقبله، كانت طرابلس مدرسة تلك المناطق، ومتجرها، وسينماها، ومقهاها... وبرغم ضراوة (وبشاعة) الحرب بقي سكان الجوار والشمال عموماً يدمنون على طرابلس... وبعضهم دفع حياته ثمن تمسكه بطرابلس (هل نذكر مخايل فرح صاحب أهم مكتبة عرفتها طرابلس في تاريخها وكانت ملتقى الأدباء والمتأدبين على مدى عقود، وأسهمت في نهضة طرابلس العلمية؟.. وكان مصيره ذبحاً على الهوية يوم سيطر «الأوباش» واستحكم الزعران بمقدرات «مدينة العلم والعلماء»).

وليس بالأمر البسيط أن تمر دورتان إنتخابيتان للبلديات من دون أن يتمكن القياديون في طرابلس من إيصال مسيحي الى عضوية المجلس البلدي. ونبادر الى القول هذا دليل آخر على إفلاس القيادات السياسية في طرابلس. هؤلاء الذين نذكّرهم بأن الشهيد رشيد كرامي (ونحن هذه الأيام في ذكراه العطرة) كان يبدأ معركته الإنتخابية من «قلاّية الصليب» في طرابلس (مركز أبرشية طرابلس والشمال المارونية) ويقول للمثلث الرحمات المطران أنطون عبد: «بارك يا سيدنا خطواتنا».

إن طرابلس من دون المسيحيين ليست طرابلس. أصلاً، من زمان لم تعد طرابلس تلك الطرابلس التي عرفناها وأحببناها وأمضينا فيها ميعة الصبا وفورة الشباب، ومن مدارسها نهلنا العلم، وفي شوارعها كنّا نعد البلاطات، ومن «تخشيبة» البغدادي نأكل أطيب سندويش لبنة، ومن ملعب مدرسة الآباء الكرمليين كان صوتنا يلعلع في إحتفال «آخر السنة» ترحيباً بالرشيد قبل أن نحوّل إليه الميكروفون ليلقي خطاب الحكمة والتسامح والوطنية والأخوة بين أطياف الوطن الواحد.

هل يدرك الذين أسقطوا الأعضاء الموارنة من اللائحة البلدية أي خطيئة أو جريمة وطنية (ولنستعر التوصيف الموفق من الوزير نهاد المشنوق) يرتكبون؟..

هل يعرف هؤلاء ماذا تعني قباب الكنائس وهي تجاور مآذن المساجد في طرابلس؟

هل يعرفون ماذا يعني شارع المطران؟

هل يعرفون ماذا يعني شارع الراهبات؟

هل يعرفون كم كان عدد سكان الميناء والقبة المسيحيين؟

هل يعرفون ماذا تعني مدارس الآباء الكرمليين (الطليان) والأخوة المسيحيين (الفرير) والروم (للبنات) ومار الياس (في الميناء)؟ ومن تخرج من تلك المدارس؟!

هل يعرفون ماذا قدّم يوسف يونس، ويكتور خوري، وأديب صعيبي، والخوري حنا حبيب، والشيخ يوسف ​خليل الخوري​، وجورج إسحق الخوري، وحسيب غالب ويوسف النعيمي، والأب جوهر، ومكتبة الثقافة الجدية، ومكتبة الشبيبة (و ...).

ماذا قدم هؤلاء الأعلام الكبار لطرابلس، وأي وَلَهٍ شغف أفئدتهم بها، وأي قصائد عصماء قالوها فيها؟

واللّه وباللّه وتاللّه... نقول ما تقدم حزناً وحرقة على طرابلس التي كانت، والتي أحبننا حتى العشق؟