شهد تنظيم «داعش» في العامين المنصرمين تمدّداً مزَّق به خرائط دولٍ، من العراق إلى سوريا وصولاً إلى جرود عرسال اللبنانية راسماً لمجموعاته خطّ انتقال سريعاً وآمناً من دون «مطبات» أو حواجز تعوق وصله بمناطق نفوذه وهيمنته.

إلّا أنّ حال تمدّد السنتين المنصرمتين تبدّدت في الشهرين الماضيين، فالتقديرات عند مختلف الأجهزة الأمنية الرسمية في الدول المشرقية الثلاث (العراق، سوريا ولبنان)، فضلاً عن المقاومة الشريك الأساس في قتال «داعش» تتقاطع على أنّ الخطوط الحدودية المرنة (القابلة للتمدّد) التي رسمها «داعش» لنفسه بدأت تتلاشى، وأنّ خطّ سير حركته لم يعد سالكاً بعدما قطعت أوصاله من تدمر السورية إلى جرود عرسال اللبنانية، وما أحكمه الجيش اللبناني من سيطرة على أبرز التلال الإستراتيجية المطلّة على الجرود، حوّل بقع هيمنة «داعش» الى ما يشبه الرمال المتحركة التي يعجز التنظيم الارهابي عن الحركة الفعالة فيها.

والتنظيم الأكثر تداولاً على ألسنة مسؤولي الأجهزة الأمنية، وشاغل الأدمغة والعقول المعنية بمكافحة الإرهاب بدأ يفقد عناصر تفوّقه الواحد تلوَ الأخر، فبعد خسارته عنصر «المباغتة» وسهولة التحرك وسرعته بفضل ظلال طائرات «السوخوي» الروسية ذات التقنية العالية في الرصد وتوجيه الضربات الدقيقة والخاطفة، فقَد عنصر «الترهيب» والدعاية الممنهجة التي ساعده خصومه في الترويج لها من حيث لا يدرون، فأطلّ قادته عبر الشاشات بالصوت والصورة متنكرين بزيّ النسوة في محاولة للهروب من «الفلوجة» العراقية، لتُستكمل بتفكيك خلاياه الإرهابية النائمة في لبنان وكشف مديرية المخابرات والأجهزة الأمنية اللثام عن العديد منها، ونشر صورهم مستسلمين مهزومين، ما ساهَم في كسر حاجز الرعب من تنظيم كاد يعتقد البعض أنه لا يُقهر.

ويُسجّل مراقبون تقاطعاً روسياً - أميركياً (ولو محدوداً نسبياً) في لجم تمدّد التنظيم الذي اجتاز بإرهابه خرائط الشرق الأوسط الممزق، وصولاً إلى سيناء مصر وليبيا وقلب القارة الأوروبية بعمليات نوعية شارك في بعضها العشرات من المخططين والمنفّذين ومساعديهم اللوجستيين، فضلاً عن الانتحاريين كما حصل في عملية بروكسل الإرهابية.

ليظهر تبدل في التعامل الأميركي مع التنظيم الإرهابي الأخطر وفق لوائح الإرهاب العالمية، تجلّى في تنشيط الأجهزة الاميركية المعنيّة بتجفيف تمويل «داعش» ماكيناتها، الأمر الذي أدّى الى قطع الكثير من شرايين التمويل المالي سواءٌ عبر بيع النفط، الآثار، أو التحويلات المالية، ما قاد الى إغلاق أبواب استقبال المتطوّعين الجدد والعجز عن دفع رواتب المقاتلين في صفوفه، توازياً مع إغلاق بعض نوافذ الدعم والتمويل.

وهذا ما ساهم في نجاح محور الممانعة ومعه روسيا الاتحادية في إيقاف طبيعة المعارك الهجومية لـ«داعش» وانتقاله إلى الخطوط الدفاعية، إلّا في بعض الحالات المرتبطة في غالبيّتها بأخطاء «تكتية» أو تفشي حالات فساد في بعض الوحدات القتالية على الأرض وتشريعها الأبواب لـ«داعش»، كما حصل أكثر من مرة في «حقل الشاعر» في حمص السورية على سبيل المثال.

ولأنّ التحوّل إلى الخطوط الدفاعية وخسارة «داعش» أكثر من ثلثي المساحات التي كان قد احتلّها وسيطر عليها في السنتين الأخيرتين، لم تعد أمامه سوى العمليات الإرهابية خارج أسوار «دولته المزعومة» متنفَساً علّه يطيل أمد وجوده في انتظار عودة الاشتباك الدولي والاستفادة من دعم بعض الجهات الإقليمية له في إطار الصراع المذهبي الذي يشكل «أوكسجين» تنفسّه الحقيقي.

وعليه يبدو أنّ تنظيم التمدّد دخل عنق الزجاجة، ويسجل معنيون بمكافحة الإرهاب أنّ التنظيم الأشد خطورة اليوم سيحاول القيام بالآتي:

- إطالة أمد المعارك التي يخوضها على مختلف الساحات، خصوصاً في الفلوجة العراقية، فتقهقره التام سيمنع أعداءه في تلك البقعة الجغرافية من استنساخ تجربة «الفلوجة» ويشجّعهم على الاستمرار في نمط التعاون وشكله نفسيهما، جواً وبراً.

2- توسيع هجومه في غرب الأنبار، في محاولة لإلهاء الجيش العراقي والحشد الشعبي واصدقائهما عن معركة الفلوجة.

3- الضغط للسيطرة على مارع وإعزاز السوريّتين ولو إضطُر الى التنسيق مع بعض فصائل «النصرة» وتجاوز حساسية «الأخوة الأعداء»، نظراً لأهميتهما الإستراتيجية الميدانية، وباعتبارها أحد ابرز شرايين التمويل التي تعاني من إنسداد نسبي.

4- محاولة الهجوم لإحتلال مناطق دير الزُور الخارجة عن سيطرته، واستباق الجيش السوري إليها.

5- مواصلة عملياته شرق وشمال شرق حُمص، ومحاولة الاقتراب من تدمر مجدّداً من شمالها الغربي.

6- إعادة فتح معارك جديدة في القلمون الشرقي، والسعي إلى استحداث نقاط اشتباك همدت في تلك المنطقة الجبلية.

إلّا أنّ مصدراً «ممانعاً» على صلة بغرف عمليات مقاتلة «داعش» يؤكّد أنّ للنقاط الست المذكورة آنفاً خططاً محكمة قد وضعت، ويخلص الى إنتظار صيف حار ميدانياً وأمنياً سيحاول من خلاله الروس الاستفادة من الإدارة الأميركية الحالية قبل رحيلها، لتعزيز جهود الجيش السوري وأصدقائه في تقليص مساحات سيطرة «داعش» أكثر وأكثر، تمهيداً للضربة القاضية التي تحتاج إلى تحالف دولي يكبح جامح داعمي التنظيم الإرهابي سواءٌ بالدعم المباشر أو غير المباشر جراء الحريق المذهبي الذي يستفيد «داعش» من دخانه للتسلّل وتمزيق خرائط الدول.