يبدو أن سعد الحريري لم يتعلم من درس طرابلس، ولا قبله من درس بيروت، أو دروس عكار والضنية والبقاعين الأوسط والغربي. الرجل لم يعرف أن يأس الناخبين من صراخ السياسيين هو الذي جعل صناديقه فارغة.

حتى أشرف ريفي، لم يدّع أن الموقف السياسي هو الذي حسم المعركة. ومن قرأ الصناديق جيداً يعرف ببساطة أن القصة في مكان آخر.

يروي صيّادو الاسماك في طرابلس أن محمد مفلح، رجل المخابرات السورية الكريه، كان يستدعي كبارهم ليقول لهم: الشباب يقولون إنكم ذهبتم بعيداً في المياه، هل كنتم تلتقون هناك برجال الموساد؟ لكن أحد الصيادين كان نبيهاً منذ البداية، فكان يجيبه: دعنا من إسرائيل، ما هي طلباتك؟

اليوم، كلما رفع شخص صوته محتجاً، يخرج الحريري وغيره من أبناء الخط، بما في ذلك الذين تمرّدوا عليه، ليرموا كل مصائبهم على سوريا وإيران وسلاح المقاومة. لم ينتبه هؤلاء الى أن جمهورهم، قبل الآخرين، ملّ هذه النكتة السمجة. وصل الأمر بأحد قيادات باب التبانة من الشباب الى القول: بعد ناقص خينا أبو خالد يتهم المقاومة بعجزو الجنسي!

ما قام به الحريري في الشمال، وما قاله كارثة. وما قاله عن تحمّله مسؤولية ما حصل، وما سرّبه عن نيته إجراء تغييرات جذرية، يبدو أنه كلام بكلام. كان على الحريري أن يعطي كاتب خطاباته إجازة غير مدفوعة، ولو لم يكن يدفع له راتبه الشهري هذه الأيام. كان عليه أن يطرد نادي السخفاء من مجلسه إن أراد فهم ما الذي يحصل معه. لكن، يبدو أنه أدرك الحقيقة الصعبة، وهي أن المشكلة لا تحلّ من دون تعديلات في سلوكه هو شخصياً. وهو أمر يبدو مستبعداً حتى إشعار آخر.

الحريري يبدو مقتنعاً بأن استعادة شعبيته مفتاحها شتم المقاومة وسوريا وإيران. ولأنه كذلك، لن يُقدِم، كما كل الذين خسروا الانتخابات البلدية، على إجراء المراجعة الضرورية لمعرفة حقيقة ما يحصل. هم لن يقبلوا الإقرار بأن سياساتهم في الحكم وخارجه لم تأت للناس إلا بالكوارث، وبأن المناطق التي تخضع لنفوذهم باتت الأكثر فقراً، والأكثر إهمالاً، والأقل تأثيراً على كل الصعد.

يرفض المهزومون الإقرار بأن دفع مئة دولار مقابل رفع صورهم على بيوت مهدمة لم يعد ينفع في شيء، وأن الناس ملّوا كل شيء. ملّوا المتاجرة بهم كفقراء من دون أي مشروع. وملّوا التحدث باسمهم لأجل الوصول الى مكاسب شخصية باتت مؤخراً محصورة في مطالب شخصية. وأن الناس ملّوا استخدامهم في مشاريع محلية وخارجية من دون طائل معنوي أو مادي لائق.

يرفض المهزومون الإقرار بأنهم ليسوا أهلاً لقيادة هذا الجمهور. وأن الناس يقارنون بمن يجري تعبئتهم على أنهم الأعداء. ماذا يعتقد الحريري ورفاقه من المهزومين؟ ألا يعرفون أن الجمهور سيسأل عن النتائج السياسية مقابل ما حققته المقاومة؟ ألا يعرفون أن الجمهور بات يقفل جهاز التلفزيون عندما يطلون على الشاشات، بينما يتسمّر لسماع السيد حسن، ولو من موقع المعادي؟ ألا يعرفون أنه لم يُبنَ لهم مستشفى أو مدرسة أو معمل أو حتى حزب طبيعي؟

طيب، ألا يفكر الحريري في أن الناس عندما تهدأ من ضجيج الإفطارات وتتابع مسلسلات رمضان، وعند الذهاب الى النوم، تضجّ رؤوسها بالأسئلة حول الأكل والتعليم والسكن والزواج والهجرة؟ أم انه يعتقد أن خطاب الكراهية والحقد يسمن ويغني؟

ألا يفكر الحريري في أن كل ما يقوله في السياسة لا يفيد في إقناع موظف لبناني واحد، لا يتقاضى راتبه في شركاته السعودية منذ شهور طويلة، وهو يرى الحريري نفسه لا يقلّص نفقات السيكار دولاراً واحداً، أم يظن أن اتهام الفُرس بهدر أموال النفط سوف يكون الجواب؟

ألا يفكر الحريري في أن طرابلس تغيّر وجهها منذ عشر سنوات الى الآن مرات ومرات؟ ألا يسأل كم عدد العائلات العلوية والشيعية والمسيحية التي غادرت مناطق نفوذه منذ توليه الأمر، أم يعتقد أن كذبة التعايش والمناصفة يمكن أن تمنع الأسئلة، أو أنه سيقول للجمهور إن صواريخ الفرس والمجوس هجّرت هؤلاء، أم سيقول إنهم كانوا موجودين أيام الوجود السوري بالقوة وليس بالاختيار؟

ألا يسأل الحريري نفسه مرة واحدة، فقط مرة واحدة، عمّا أفاده أو ساعد فيه أصحاب الياقات المتقاطرون الى منزله يوماً بعد يوم، وهم الذين يرفضون إنفاق دولار واحد لمساعدته في سدّ عجز نفقات الضيافة في المنزل نفسه؟ أم انه مسرور بالذين لا يعرف قاموسهم سوى عشرات الكلمات وعشرات الجمل التي تكرر النكتة السمجة نفسها، بينما تستمر الحياة من حولهم؟

ثم إذا كان الحريري غاضباً الى هذه الدرجة من خزائن الحرس الثوري الايراني، فلماذا لا يجد غير مؤيدين لحزب الله أو الحرس الثوري نفسه يسيّلون له عقاراً، أو ينفذون له مشاريع بالباطن؟ وبعد كل ذلك، تراه مندفعاً ليقدم مباشرة أو من خلال موظفيه في المؤسسات المالية الرسمية والخاصة، لوائح بأسماء هؤلاء الى الاميركيين، طالباً وضعهم على لوائح العقوبات بحجة أنهم يموّلون نشاطات حزب الله؟

كان منطقياً القول إن على التركيبة السياسية أن تحضن الحريري، وأن تساعده على الخروج من أزماته. لكن عليه، هو أولاً، إعطاء الإشارة بأن الدعم سيفيد في تغيير حاله. ومع ذلك، تراه يكابر، ويطلق النار بنفسه على نفسه.

هل لنا أن نستعير كلام خالد الضاهر في تقييمه لنتائج سياساتك أيها الجهبذ، أم ماذا تريدنا أن نفعل؟

يبدو أنك تحتاج إلى من يوقظك من هذيانك، لا إلى من يحضنك.

لا، وفوق كل ذلك، ورغم صغرك، تتطاول على مصطفى بدرالدين!