عامٌ مضى على قيام ما إصطُلح على تسميته بـ"​الحراك المدني​"، الذي ضمّ مجموعة من الشابات والشبّان "المغمورين"، الذين إنتفضوا لكراماتهم وكرامة شعبهم، فثاروا ضدّ الفساد السياسي والإداري، والإقطاع المالي والسياسي الذي أفسد الحياة السياسية منذ أكثر من ثلاثة عقود.

تنادى هؤلاء من خلفيات سياسية ومذهبية ودينية مختلفة، جمهعم القهر والإذلال، والرفض لإستمرار الحالة السياسية المهترئة، نتيجة الفساد الذي عشعش في الإدارة وتحكّم بمفاصلها، وفي التركيبة السياسية الحاكمة التي تنادت، بالرغم من تناقضاتها السياسية والمذهبية، إلى لجم هذا الحراك، وحاولت القضاء عليه، تارةً بالترغيب، وطوراً بالترهيب والإعتداء المسلّح مباشرةً على الهواء، ثم بتشويه الأهداف وإطلاق النعوت وربط تحرّكات قياديي هذا الحراك بسفارات أجنبية ومال يُدفع من الخارج "لتقويض" الدولة...

بدايةً يقتضي توضيح صفة "المدني" التي تُطلق على هذا الحراك، فالمدني هو كل ما هو غير عسكري وغير ديني، فالأحزاب السياسية والتيارات والسلطة وأركانها كلهم مدنيون، لذلك برأينا، فإن كلمة "​الحراك الشعبي​" هي أدقّ تعبيراً واشمل وصفاً، لأنه إنبثق من الشعب، وليس من توريث الأولاد والأحفاد، ولكي لا يتقاسم صفة المدني مع السلطة وفسادها.

أطلقت النار على الحراك، أصيب، وقع أرضًا، تعثّر، لكنّه عاد وإنتصب واقفاً وتابع المسيرة وإن بوتيرة أخفّ وأبطأ، لكن برأينا، أن تعاضد أركان السلطة ضدّ الحراك الشعبي، ليس هو السبب الوحيد في "فركشته"، بل هناك اسباب أخرى تعود إلى الحراك بذاته، وإلى بنيته وقياداته، وقد ساهمت إلى حدّ كبير في إبطاء الزخم الشعبي المؤيّد، وأحياناً إلى التوقّف وتغييب الصوت. من هذه الأسباب:

1- اللجوء إلى "الأنا" الذاتية القابعة في أعماق كلّ واحد منّا، فلا هذه المجموعة ترضى بالتنسيق مع تلك، ولا تلك الحملة تقبل بأن تتساوى مع غيرها... وهكذا يغيب التنسيق، ويتمّ التسابق إلى الظهور الإعلامي وإحتكار الأحقّية في قيادة الحراك، فتضيع الجهود نتيجة عدم توحيدها وتنسيقها للوصول إلى النتيجة الفضلى.

2- الخلفيات السياسية والدينية لبعض قياديي الحراك، والتي تتناقض فيما بينها، فحملات الحراك يقودها شبّان وشابات من خلفيات سياسية مختلفة تتناقض في الأهداف والمبادئ، وكانت في الماضي تتقاتل فيما بينها، فهناك الشيوعيون والقوميون الإجتماعيون والعونيون والكتائبيون والقواتيون (السابقون). وقد إستفاقت فجأة تلك الخلافات والتناقضات، وبرأينا هي إستفاقة غير بريئة، بل خُطّط لها لضرب الحراك بقياداته والتصويب على خلفياتهم وبعض المواقف المتطرّفة التي أطلقها بعضهم على مواقع التواصل الإجتماعي، كالتي طالت الناشط في مجموعة "طلعت ريحتكن" أسعد ذبيان (على سبيل المثال لا الحصر).

3- عدم وجود مخطّط واضح أو AGENDA سياسية واضحة لمجموعات الحراك الشعبي، التي نشأت في أعقاب بروز أزمة ​النفايات​، ولم تتوسّع إلى مكامن الفساد في السلطة والإدارة، بل وضعت نفسها (أكثر المجموعات) في صورة الحملات البيئية الصرفة التي ترفض تراكم النفايات في الشوارع، حفاظاً على صحة الناس ونظافة البيئة، لذلك إعتقد الجمهور أن نشاط تلك الحملات رهن بإيجاد حل لأزمة النفايات، وهذا ما حصل، إذ بمجرّد وجود "الحل" السلطوي للأزمة، والمشكوك بموضوعيته ونزاهته، تلاشت مجموعات الحراك "وكل واحد رجع ع بيتو".

4- إن مرور عام على قيام الإنتفاضة الشعبية المتمثلة بمجوعات شبابية، كان كافياً لوضع برنامج تحرّك قائم على أهداف سياسية مشتركة تُطل فيه تلك المجموعات على جمهور الناس الذي تعاطف مع الحملات يشكل منقطع النظير، فلم يسبق أن لبّى المواطنون نداء شبان وشابات مغمورين غير معروفين في الوسط السياسي (وهذا ليس إنتقاصًا من قيمتهم)، ونزلوا بالآلاف إلى الساحات، فيما إنتظر عشرات الآلاف في منازلهم نجاح هذا الحراك للإنضمام إلى الجمهور المؤيد.

بالرغم من إستمرار نشاط بعض الحملات ضدّ الفساد في أكثر من محطّة، فالحراك للأسف قد فقد الوهج والبريق الذي أضرمته مظاهرات 22 و 29 آب من العام الفائت، لكن هل يقتضي منا التنظير ووصف الحال دون إقتراح الحلول؟

نتيجة إتصالاتنا المباشرة وتعاطينا المستمرّ مع قيادات مجموعات الحراك التي لنا فيها أكثر من صديقة وصديق، نسمح لأنفسنا، نحن المؤيدين لهذا الحراك منذ بداياته ولم نزل، أن نقترح عليهم بإسم الصداقة والغيرة والأهداف المشتركة:

- الضغط على مجلس النواب بكل الوسائل المتاحة لانتخاب رئيس للجمهورية لأنّ ذلك هو بداية الحلول.

- التخلّي عن "الأنا" والتي هي السبب الرئيسي في تشتّت المجموعات وضرب التنسيق وعدم توحيد الجهود، فالوطن أكبر منا جميعاً، فلا قائد ولا زعيم مهما علا كعبه، أهم من وطنه، ولا مجموعة ولا تيار ولا حزب هو أكبر من القضية. القضية هي القضاء على الفساد السياسي والمالي، هي القضاء على الإقطاع المالي والسياسي الذي يتحكّم بكل مفاصل الدولة ويعطّل الحياة السياسية، القضية هي ذهاب هذه الطبقة السياسية الحاكمة منذ الإستقلال وحتى اليوم، المتضامنة والمتكاتفة على نهب خيرات الأمة وتوريث الناس لأولادهم وأحفادهم، وتسليطهم على الإدارة والمال العام.

- وضع برنامج سياسي واضح محدّد المعالم والأهداف يقوم على:

• وضع قانون إنتخابي على اساس لبنان دائرة واحدة مع النسبية (أو على الأقل بمحافظاته العشر مرحلياً) لكسر المحادل الطائفية والمالية وعدم تفرّد اشخاص بمقدّرات الطوائف والتفرّد بقيادتها.

• التركيز على مكامن الفساد في الإدارة والقضاء والتصويب على حماة الفاسدين وزعماء طوائفهم.

- ترك الخلافات السياسية التي قد تنشأ بين مجموعات الحراك، وهذا امر طبيعي، كونها ليست حزباً واحداً له الأهداف والمبادئ ذاتها، وبلورة الأهداف المرحلية المشتركة وإظهارها للجمهور على أنها الجامع المشترك بين مجموعات الحراك.

- تسليط الضوء على هموم المواطنين ومشاكلهم الحياتية اليومية من غياب الضمان الصحي والإجتماعي إلى التلوّث البيئي مروراً بأزمة السير في كل مدينة وخصوصاً في العاصمة، إلى غياب الكهرباء والماء واشغال البنية التحتية وإنعدام فرص العمل، إلى آخره، وهذه المواضيع تصيب الوجع الشعبي وتدغدغ إحساس الناس.

إنّ عودة أزمة النفايات، التي لم تجد حلاً اصلاً، هو مناسبة لعودة الحراك الشعبي بكل مجموعاته وفق مخطّط واضح صريح. إن اركان السلطة قد هُزّت عروشهم في آب الماضي، فيجب العودة إلى الشارع بأهداف سياسية وإجتماعية وبيئية واضحة والإصرار على رحيل السلطة الفاسدة في إنتخابات العام القادم، لأن الناس متعطشون للتغيير، توّاقون لرؤية أشخاص نظيفي الكفّ والتاريخ واضحي الرؤية، حاملي هموم الشعب وتطلعاته، فلا تدعوا الفرص تفوتكم، لا تنقصكم العزيمة ولا الإرادة، عودوا إلى الساحات حاملين مطالب الناس ولا تخرجوا منها إلا برحيل الفساد والإفساد المتمثل بهذه الطبقة السياسية الغفاسدة الحاكمة المتحكّمة.

لا تسمعوا إلا لصوت الضمير ونداء الشعب، فهو مصدر السلطات، وصوته من صوت الله، فلا تخذلوا شعبكم، ولا تُغضبوا الله...