من الواضح، على ضوء الوقائع والمعطيات التي رشحت عن اجتماع كتلة المستقبل، وما أبلغه رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري للمجتمعين بقراره النهائي ترشيح رئيس تكتل الإصلاح والتغيير العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريةً، أنّ الأمور تتجه إلى انتخاب عون رئيساً للبنان في أول جلسة نيابية محدّدة لهذه الغاية، لكن ما هو غير محسوم يبقى عدد الأصوات التي سيفوز بها عون، إذا ما استمرت معارضة رئيس مجلس النواب نبيه بري لانتخابه، وكذلك معارضة النائب سليمان فرنجية، وغيرهما من النواب المسيحيين، واحتمالات أن ينضمّ إليهم بعض الكتل الأخرى، التي لم تحسم مواقفها بعد.

لكن انتخاب العماد عون في ظلّ هذه المعارضة شيء، وانتخابه في ظلّ غياب هذه المعارضة شيء آخر. ففي الحالة الأولى يعني أننا ذاهبون إلى مزيد من التأزّم، وفي الحالة الثانية يعني أنّ هناك اتفاقاً أو توافقاً يفتح الأفق نحو إيجاد الحلول للأزمة التي يعاني منها لبنان.

فمن يعتقد أنه بمجرد انتخاب العماد عون سوف يخرج لبنان أوتوماتيكياً من أزماته المتفاقمة، على الصعد كافة، إنما يكاد يكون ساذجاً، لأنه لا يدرك عمق الأزمة التي تفجّرت في البلاد منذ صدور القرار 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما أعقبه من معارك وصراعات على موقع لبنان، هل يكون في المحور الأميركي الإسرائيلي العربي الرجعي، أم يكون في المحور العروبي المقاوم للاحتلال الصهيوني ومشروع الهيمنة الأميركي الاستعماري. إضافة إلى الصراع الداخلي على طبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والطريقة التي تجري فيها عملية تداول السلطة وفق قوانين انتخابية تحتكر التمثيل النيابي من قبل بعض أطراف الطبقة السياسية التي تعيد إنتاج نفوذها في السلطة عبر هذه القوانين الانتخابية المفصّلة على قياسها، وتؤمّن لها تقاسم المغانم وحماية الفاسدين المحسوبين عليها، فيما هناك قوى سياسية في البرلمان والحكومة وخارجهما، إضافة إلى فعاليات سياسية وأهلية واجتماعية ونقابية تطالب بإصلاح قانون الانتخاب واعتماد قانون عصري على أساس التمثيل النسبي يحقق عدالة التمثيل، ومحاربة الفساد، الذي ينخر كلّ مؤسسات الدولة، وتطالب أيضاً باعتماد سياسات اقتصادية تنموية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

لهذا، فإنه في حال تمّت عملية انتخاب الجنرال عون من دون أن يكون هناك اتفاق على طبيعة الحكومة المقبلة والسياسات التي سيتمّ انتهاجها، لا سيما لناحية تحديد الموقف الواضح من المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني والإرهاب التكفيري، وحسم موقف لبنان مما يجري في سورية من حرب إرهابية استعمارية، وكذلك تحديد ماهية السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي ستتبع. وقبل ذلك اعتماد قانون جديد للانتخاب على أساس التمثيل النسبي، فإنّ الأزمة سوف تتفاقم إلى أن تنضج الظروف لفرض مثل هذه الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي قانون الانتخاب.

الواضح أنّ قرار الرئيس سعد الحريري تبني ترشيح الجنرال عون، إنما جاء نتيجة تبدّل موازين القوى إقليمياً ودولياً في غير مصلحته من ناحية، ونتيجة إفلاس مشروعه السياسي وتفجّر أزمته المالية من ناحية ثانية. كلّ ذلك بات عاملاً يضغط بقوة على الحريري وهو ما دفعه مكرهاً إلى التخلي عن ترشيح النائب فرنجية، والقبول بترشيح العماد عون مراهناً أن يؤدي ذلك إلى عودته السريعة إلى رئاسة الحكومة لترميم أوضاعه الداخلية والحدّ من تراجع شعبيته وأزماته.

من هنا، فإنّ تبني الحريري ترشيح العماد عون، وإنْ كان يشكل تراجعاً مهماً منه لكون عون مرشح حزب الله والعديد من القوى الوطنية، إلا أنه يندرج أيضاً في سياق خطة الحريري ومن ورائه الولايات المتحدة والسعودية والدول الغربية للدخول في مثل هذه الصفقة لتعويم نفوذه في السلطة قبل أن تؤدي التحوّلات الحاصلة في سورية وعموم المنطقة والعالم، لمصلحة المقاومة والقوى الوطنية في لبنان، إلى إخلال أكبر في التوازنات الداخلية في غير مصلحته.

لهذا كله فإنّ انتخاب العماد عون لا يعني حلّ الأزمة التي يجمع المتابعون لتطوراتها ومسبّباتها على أنه لا يمكن الخروج منها من دون أن يقترن أو يعقب انتخاب الرئيس إحداث إصلاحات جدية تطال قانون الانتخاب ومجمل السياسات الوطنية والاقتصادية والاجتماعية.

فالصراع الحقيقي يكمن في جوهره بين مَن يريد الإصلاح وتغيير السياسات التي كانت وراء الأزمات التي يرزح تحت وطأتها اللبنانيون، وبين مَن يرفض الإصلاح ويصرّ على إعادة إنتاج نفوذه في السلطة متجاهلاً التحوّلات والمعادلات الجديدة وعمق الأزمة التي لم يعد بالإمكان الالتفاف عليها والقفز فوقها بتسويات فوقية.

انطلاقاً من ذلك فإنّ انتخاب العماد عون سوف يشكل حلاً لجزء متفرّع من الأزمة، لكن يبقى الجزء الأهمّ وهو إحداث إصلاح في بنية النظام اللبناني المولد للأزمات، والذي يتفق معظم اللبنانيين على أنّ مدخله هو اعتماد قانون للانتخاب يرتكز إلى التمثيل النسبي ولبنان دائرة انتخابية أو في الحدّ الأدنى اعتماد المحافظات دوائر انتخابية.

وفي ظلّ عدم إقرار مثل هذا الإصلاح، فإنّ ما هو منتظَر بعد الإعلان رسمياً عن ترشيح العماد عون من قبل الحريري وإجراء عملية الانتخاب في المجلس النيابي، أن يشتدّ الصراع حول رئاسة الحكومة وتشكيلها وطبيعة سياساتها الداخلية والخارجية. ولن يكون بالأمر اليسير الاتفاق على كلّ هذه الأمور، خصوصاً في ظلً التناقضات الكبيرة في المواقف بين الأطراف السياسية وعدم وجود اتفاق بينها، خصوصاً لناحية الموقف من قانون الانتخاب والمقاومة وسلاحها، ومن الحرب ضدّ قوى الإرهاب التكفيري في سورية والجرود اللبنانية على السواء.

إنّ ما تقدّم يؤشر بوضوح إلى أنّ لبنان أمام أزمة عميقة ومستفحلة لا يمكن معالجتها عبر تسويات تشكل استمراراً لما هو قائم، بل إنّ الإمعان في مثل هذا النوع من التسويات سيقود إلى مزيد من تفاقم الأزمة والتعفّن في الواقع السياسي على مستوى السلطة التي أثبتت عجزها وإفلاسها.

وكما أنّ لبنان لم يتمكّن من الخروج من أزمته عام 1958 إلا بالإصلاحات الشهابية، ولم يتمكّن من وضع نهاية للحرب الأهلية، التي تفجّرت عام 1975 واستمرت نحو 15 عاماً، إلا بإصلاحات الطائف، فإنّ لبنان لن يستطيع تجاوز أزمته إلاً إذا أقرّت إصلاحات حقيقية تلبّي مطالب أغلب اللبنانيين، ويشكل قانون الانتخاب على أساس التمثيل النسبي مدخلها وحدّها الأدنى الذي يتمّ على أساسه إجراء الانتخابات وإعادة تكوّن السلطة.