يتّفق الكثير من المتابعين والمراقبين على أنّ ما أخّر ويؤخّر تشكيل حكومة العهد الأولى ليس حقيقةً الاختلاف على حقيبةٍ بالزائد أو بالناقص، ولا حتى على تقاسم المغانم، بل سعي الكثير من الفرقاء لتحجيم فريقٍ من هنا أو الأخذ بالثأر من فريقٍ من هناك، وتصفية الحسابات معه، سواء تلك التاريخية منها، أو التي تعود إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما رافقها من تعقيداتٍ أكثر من أن تُعَدّ أو تُحصى.

وسط هذا الواقع، يبدو رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ في مكانٍ آخر تمامًا، على الأقل في الظاهر، هو الذي يسعى لمراعاة ومسايرة الجميع من دون استثناء، بعدما تحوّل الخصوم في قاموسه إلى "أصدقاء" حيناً و"حلفاء" حيناً آخر، علمًا أنّ شبه الاجماع الذي حصل عليه لتأليف الحكومة لم يكن لـ"سواد عينيه"، بل رغبةً من الجميع بالمشاركة في حكومة العهد، أو "حكومة الانتخابات"، وهنا بيت القصيد...

انفتاح مُطلَق...

في حين تمتعض قوى "​8 آذار​" ممّا تصفه "الحصّة المنتفخة" التي يعمل حزب "​القوات اللبنانية​" لتحصيلها في الحكومة المنتظرة، وتسعى بكلّ ما أوتيت من قوة لتحجيمها كماً ونوعاً، وفي وقتٍ لا يخفي "القواتيون" بالتكافل والتضامن مع "التيار الوطني الحر" رغبتهم بالاستئثار بالمقاعد المسيحية في الحكومة، ومنع "جوائز الترضية" عن خصومهم، وعلى رأسهم "تيار المردة" و"حزب الكتائب"، يصرّ رئيس "تيار المستقبل" على الانفتاح على الجميع، من دون استثناء، وإشراكهم قدر الإمكان في حكومته.

فالرجل، الذي سارع لـ"تبرئة" رئيس المجلس النيابي نبيه بري من اتهامه بالعرقلة، يحرص على مراعاته، مثله مثل رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب ​وليد جنبلاط​، ومن خلفهما "حزب الله"، بدليل "الهدنة" شبه المُعلَنة مع الأخير منذ لحظة التكليف. وهو يحرص على تمتين علاقته بالثنائية المسيحية المستجدّة، المتمثلة في "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، خصوصًا أنّ طبيعة علاقته برئيس الجمهورية العماد ميشال عون من شأنها أن ترسم معالم المرحلة المقبلة بالكامل، ولكنّه في الوقت نفسه يرفض التخلّي عن "صديقه الجديد"، كما يصفه، رئيس تيار "المردة" النائب ​سليمان فرنجية​، ومثله رئيس "حزب الكتائب" ​سامي الجميل​.

وإذا كان الحريري يشعر في مكانٍ ما بأنّ الأمور بدأت "تفلت" من يديه، وأنّ هناك من يريد التصدّي لعملية التأليف نيابةً عنه، خصوصًا بعد ما سُرّب عن رفض الرئيس عون للتشكيلة الحكومية التي قدّمها له بشكلٍ أحرجه وكاد يُخرجه، فإنّ رئيس الحكومة المكلف لم يتخلّ عن الليونة التي أبداها منذ اليوم الأول، وليس خافيًا على أحد أنّه وافق على التخلّي عن أحد المقاعد السنية في الحكومة للرئيس مقابل توزير مسيحي من حصّته، وهو ما يُقال أنّ بري لم يوافق عليه في الحصّة الشيعية في المقابل.

وعلى الرغم من أنّ القاصي والداني يعرف أنّ الحريري يفضّل عدم إشراك بعض المكوّنات في حكومته، خصوصًا تلك المرتبطة مباشرةً بالنظام السوري، الذي تجنّب "مصافحة" سفيره خلال استقبالات قصر بعبدا في عيد الاستقلال، فإنّ أيّ تصريحٍ "نافرٍ" بهذا الخصوص لم يصدر عنه، وإن كان إصراره على صيغة الـ24 وزيراً مرتبطاً بهذه النقطة، علمًا أنّه لم يبدِ اعتراضًا حتى على تمثيل "المعارضة السنية" عند البحث في الصيغة الثلاثينية للحكومة.

تضحيات مجانية؟

هو انفتاحٌ "مطلق" يبديه الحريري إزاء جميع الفرقاء إذاً، عن سابق تصوّرٍ وتصميم. ولكن، هل يعكس فعلاً مقاربة جديدة للرجل من العمل السياسي، قوامها البعد عن المناكفات والتجاذبات، واتباع الخطاب الوسطي القريب من الجميع؟

في الواقع، لا يبدو الأمر كذلك، بل تشير كلّ المعطيات إلى أنّه لا يعدو كونه جزءاً من "متطلبات" المرحلة، خصوصًا بعدما بات معروفاً للقاصي والداني أنّ الرجل يتوق إلى الوصول إلى السراي الحكومي، اليوم قبل الغد، وهو ما كان بنفسه أقرّ به يوم تبنّى ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، حين "صارح" جمهوره بواقعه المالي والسياسي المتأزّم الذي فرض عليه اللجوء للخيار الذي وُصِف بـ"المُرّ"، وبالتالي فإنّ كلّ التضحيات والتنازلات التي قدّمها وما يزال مستعداً لتقديم المزيد منها لم تكن ولن تكون "مجانية".

أكثر من ذلك، فإنّ حرص الحريري على إشراك أغلب الفرقاء الفاعلين، إن لم يكن جميعهم، في حكومته، إذا كان يمكن وضعه في خانة "المصالح المتبادلة" بينه وبينهم، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّه يصبّ أيضًا في خانة تسهيل المهام الملقاة على عاتقه في المرحلة المقبلة السابقة للانتخابات النيابية، والتخفيف قدر الإمكان من حجم المعارضة التي يمكن أن تشوّش عليه عمله.

ولعلّ كون هذه الحكومة بالتحديد هي "حكومة انتخابات"، يختصر المسألة برمّتها، خصوصًا أنّ الحريري أصرّ على أن يترأسها بنفسه، ورفض اقتراحات سابقة بأن ينتظر حكومة ما بعد الانتخابات، على أن تكون هذه الحكومة أشبه بحكومة "انتقالية" يترأسها أحد المقرّبين منه، وقد طُرح في الكواليس اسم وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال ​نهاد المشنوق​ لاستلام زمامها.

وهذا الأمر، إن دلّ على شيء، فعلى رهان الحريري الكبير على هذه الحكومة لتمتين وضعه، ماليًا وسياسيًا وشعبيًا، خصوصًا بعدما تلمّس رغبة العديد من أخصامه على الساحة السنية لـ"وراثته"، وهو الأمر الذي لم يتردّد وزير العدل المستقيل ​أشرف ريفي​ من "المجاهرة" به في وقتٍ سابق. وإذا كان الرجل قد تنفّس الصعداء مع الارتياح الشعبي الذي نتج بشكلٍ فوري عن تسميته لرئاسة الحكومة، فإنّه يتطلّع إلى "تحصين" هذا الواقع في المرحلة المقبلة، من خلال موقعه الجديد والخدمات التي يوفّرها له.

"خيّ الكلّ"!

في خضمّ "مناكفات" تأليف الحكومة بحساباتها المتباينة بين "الثأر" و"النكايات"، لا شكّ أنّ الحريري يحرص على تطبيق شعار "خيّ الكلّ" بصورةٍ عملية، فيتقرّب من هذا هنا، ويساير ذلك هنالك، ويمتّن علاقته بسائر الأصدقاء، القدامى منهم والجُدُد.

وبعيدًا عن تشخيص صداقات "الشيخ سعد" بين حقيقية ومزيّفة، فإنّ الأكيد أنّ عين الرجل باتت أبعد من كلّ هذه التفاصيل، وتحديدًا على اليوم الذي يصبح فيه "ساكنًا شرعيًا" للسراي، لا ينافسه عليه أحد، وفي سبيله يهون كلّ شيء...