على جري العادة اللبنانية التي بات التعثر الحكومي جزءاً لا يتجزّأ منها، بدأت خلال الساعات الماضية "بالونات اختبار" بالتسرّب إلى الواجهة، من الحديث تارةً عن مهلةٍ أعطاها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ لفكّ العُقَد التي تحول دون ولادة الحكومة، وتارةً أخرى عن "حكومة أمر واقع" قد يعمد الرجلان لإعلانها في القريب العاجل.

ولكن، ألا تبدو مثل هذه الطروحات سابقة لأوانها؟ هل فعلاً استنفد عون والحريري كلّ الخيارات ولم يعد أمامهما سوى اللجوء لخيارٍ مُرّ من هذا النوع؟ وهل من فرصٍ أصلاً لانطلاقةٍ حقيقية للعهد بهذا الشكل، علمًا أنّ عون كان تاريخياً من أشدّ الرافضين لهذا النوع من الحكومات؟

في العجلة الندامة...

لا شكّ بدايةً أنّ الأمور الحكومية تراوح مكانها منذ أسبوعين، من دون أن تتقدّم أو تتراجع ولو خطوة، على الرغم من كلّ موجات التفاؤل التي يسعى كثيرون لبثّها بين الفينة والأخرى، ومحاولات تصوير الأمور وكأنّها باتت في خواتيمها السعيدة، عبر الإيحاء بأنّها معلّقة على مقعدٍ واحدٍ من أصل 24، وهو ما دحضته الكثير من الوقائع المسرّبة من خلف الكواليس.

هكذا، لا يبدو أنّ جديداً طرأ على العقد منذ بروز ملامحها الأولية حتى اليوم، فـ"القوات" تقول في مجالسها العامة والخاصة أنّها "ضمنت" حقيبة الأشغال ضمن حصّتها، ورئيس المجلس النيابي نبيه بري يقول أنّه لن يتخلّى عنها طالما أنّ المداورة لم تشمل سائر الحقائب الأساسية، وتيار "المردة" يريدها أيضاً، وإلا فالاتصالات أو الطاقة، ولا خيار رابعاً بالنسبة إليه، متسلحاً بدعم الثنائي الشيعي الذي كان واضحًا برفضه الدخول في الحكومة من دونه، فيما يرفض "التيار الوطني الحر" ومعه "​القوات اللبنانية​" إعطاءه حقيبة غير الثقافة.

عند هذا الحدّ، تجمّدت الأمور، ولم تُلح في الأفق أيّ مبادراتٍ للتسهيل أو الحلحلة، ولسان حال الجميع يقول "فليتنازل الآخرون"، الأمر الذي تطلّب ربما برأي كثيرين "صدمة ما" تعيد تحريك العجلة الحكومية بشكلٍ أو بآخر، وتحفّز مختلف الأفرقاء على "التضحية" حتى تبصر الحكومة النور، وينطلق العمل الجدّي الذي يتطلع إليه كلّ من عون والحريري على حدّ سواء.

ولكن، هل يفي التلويح بـ"حكومة الأمر الواقع" بالغرض، ويكون هو الحلّ؟

لا يبدو الأمر كذلك بالنسبة لمواكبي عملية التأليف، الذين يرون أنّ الأمر قد يضرّ أكثر ممّا ينفع، ليس لأنّ الوقت الذي استغرقه تأليف الحكومة حتى الآن لا يزال ضمن المهل الأكثر من معقولة مقارنة بالتجارب السابقة فحسب، وإن أخطأ البعض بربط الولادة الحكومية بتواريخ واستحقاقاتٍ، بل لأنّ مثل هذا الأمر قد ينطوي على خياراتٍ ستزيد الأمور تعقيداً. فإذا كان "تيار المردة" قد أعلن عدم ممانعته بالذهاب إلى صفوف المعارضة في حال عدم تلبية مطالبه، هل من يتحمّل في المقابل تنفيذ الثنائي الشيعي لما توعّد به، وخروجه من الحكومة، علمًا أنّ إشاراتٍ واضحة بدأت تتسرّب من أنّه لن يبقى دقيقة واحدة في حكومة تُفرَض عليه فرضاً؟ هل يمكن للحكومة أصلاً أن تبصر النور بمعزلٍ عنه، ولو حرّض البعض على مثل هذا الخيار؟

نوايا غير بريئة؟

من هنا، يبدو للكثيرين أنّه لا يزال من المبكر لأوانه اللجوء لخيارات تصعيدية على طريقة "حكومة الأمر الواقع"، التي لم يخلُ استحقاقٌ حكومي في لبنان في السنوات القليلة الماضية دون التلويح بها، وإن لم تُطبَّق عمليًا إلا في ما ندر، هذا إذا كان بالإمكان تصنيف حكومة ​نجيب ميقاتي​ ذات اللون الواحد في إطارها.

ولعلّ ما يعزّز هذه النظرية أنّ الأمور لم تصل بعد لحائطٍ مسدود بما للكلمة من معنى، خصوصًا أنّ هناك ليونة نسبيّة تُرصَد على أكثر من خطّ من شأنها التمهيد لنوعٍ من الحلحلة، وقد تمثّلت بمواقف وتصريحات قياديي "حزب الله" و"حركة أمل"، المتّهَمَين برأي "المحرّضين" على "حكومة الأمر الواقع" بالمماطلة والتسويف، حيث حرصوا على الجزم بأنّ العقد غير جوهرية، وبالتالي فإنّ حلحلتها لن تكون صعبة، علمًا أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري كرّر أكثر من مرّة في العلن وفي الغرف المغلقة أنّه جاهزٌ للتدخل وحلّ مسألة حقيبة "المردة" بينه وبين النائب ​سليمان فرنجية​، متى أصبحت الأخيرة فعلاً العقدة الوحيدة التي تحول دون التأليف.

من هنا، يرى المقرّبون من الثنائي الشيعي في التلويح بحكومة الأمر الواقع، معطوفاً على الاتهامات الموجّهة إليهما دون وجه حق، كما يقولون، "نوايا غير بريئة"، وهم لا يفصلونها بأيّ شكلٍ من الأشكال عن "المحاولات الفتنوية" التي يقوم بها البعض، بشكلٍ لم يعد خافياً على أحد، لإبعادهم عن خط العهد الجديد، ووضعهما في صفوف معارضته، الأمر الذي يدرك رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل غيره زيفه وبعده عن الواقع.

وإذا كان البعض يعيب على الثنائي الشيعي، وتحديداً "حزب الله"، ما سُمّي بـ"الفيتوات" التي تمّ وضعها على تسلّم "القوات اللبنانية" أيّ حقيبةٍ وازنة، سيادية كانت أم خدماتية، الأمر الذي أحرج حليفه "التيار الوطني الحر"، الذي وجد نفسه عاجزًا عن الوفاء بالوعود التي كان قد قطعها له، فإنّ الردّ على التهم جاهزٌ لدى الثنائي، الذي يسأل المقرّبون منه عن سبب انصباب "عين القواتيين" على حقائبه دون غيره، الأمر الذي لا يمكن بريئاً بنظره، خصوصًا إذا ما كانت هذه الحقائب وحدها عُرضةً للمداورة...

مجرّد بالون...

قد تكون حكومة الأمر الواقع حلاً يمكن لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف اللجوء إليه، متى شعرا أنّ هناك من يريد وضع العصيّ في الدواليب أمام انطلاقة العهد، خصوصًا أنّهما وحدهما من يوقّعان مراسيم تأليف الحكومة.

وإذا كان هذا الخيار يبقى لغاية تاريخه غير واقعي، ليس لأنّه لا يصحّ إلا عند انعدام البدائل فحسب، بل لأنّ من شأنه إغراق العهد الجديد بمتاهاتٍ هو بغنىً عنها، فإنّ السؤال يبقى عمّا إذا كان التلويح به قد يؤتي أكله، أم أنّه على العكس من ذلك، قد يعقّد الأمور ويعيدها إلى ما قبل المربّع الأول حتى...