منذ أشهر طويلة، أي منذ بدء عمليات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، قرر تنظيم "داعش" الإرهابي التحول في أسلوب عمله، من الدفاع عن أراضي "الخلافة" في سوريا والعراق، إلى تنفيذ عمليات خارج حدود الدولتين المذكورتين، بعد أن ظن الكثيرون أن هذا النوع من العمليات من إختصاص تنظيم "القاعدة" حصراً.

وعلى الرغم من الخطر الكبير الذي يمثله التنظيم، منذ ولادته في العراق، قاد هذا التحول في الإستراتيجية إلى "عولمة" التهديدات الإرهابية من جديد، في ظل تصاعد الدعوات التي توجهها قيادات "داعش" إلى المؤيدين والأنصار، لتنفيذ هجمات في أي مكان من العالم، وهي لا تستثني المدنيين منها بل على العكس من ذلك تشجع على إستهدافهم.

وفي حين عمدت بعض الدول الغربية إلى إطلاق الحملات العسكرية ضد معاقله الأساسية في سوريا والعراق، لا يزال "داعش" قادرا على تنفيذ إعتداءات في مناطق مختلفة من العالم في فترة قياسيّة، كان آخرها الإعتداء الذي استهدف نادي "رينا" في مدينة اسطنبول التركية خلال الإحتفالات بعيد رأس السنة، ما يؤكد أن التنظيم لا يزال يمتلك القدرة والقوة على إستهداف مصالح الدول وتهديد حياة المدنيين الآمنيين.

أمام هذا الواقع، من المفترض طرح جملة من الأسئلة حول الإستراتيجيات المعتمدة لمكافحة الإرهاب على مستوى العالم، نظراً إلى أنها أثبتت فشلها حتى الآن، حيث لم تنجح كل التحالفات في الحد من الخطر أو منع وقوعه، لا بل من غير المتوقع، في حال استمرت بالوتيرة نفسها، أن تنجح في تحقيق أهداف كبيرة، مع العلم أنها لا تزال هي نفسها منذ أحداث الحادي عشر من أيلول في ​الولايات المتحدة​ الأميركية، ويمكن القول أنها كانت السبب الرئيسي في بروز "داعش" بعد الإعلان عن النجاح في إضعاف "القاعدة".

قد يكون من أهم أسباب هذا الفشل هو عدم وجود إستراتيجية موحدة على الصعيد العالمي، حيث يتم إستغلال العمل على مكافحة الإرهاب لتحقيق أهداف أخرى، سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية، ويتحول الصراع إلى تسابق على تحقيق المصالح بين الدول المختلفة، الأمر الذي يستفيد منه "داعش" إلى أبعد الحدود، وهو بدوره يستخدم أيضاً كأداة من قبل بعض الجهات في أماكن متفرّقة.

بالإضافة إلى ذلك، تنصب كافة الجهود التي تبذل على الميدانين العسكري والأمني، مع العلم أنهما الجزء الأبسط من المعركة مع الإرهاب، في حين تغيب المحاولات في المجالات الثقافية والإجتماعية والدينية والإعلامية، التي يتسرب منها "داعش" وأمثاله لتجنيد المقاتلين، وتأمين البيئة الحاضنة التي تسمح له بالتحرك بكل حرية، وهو ما يتأكد من خلال الأدبيات التي يستخدمها في الإصدارات التي يتوجه بها إلى العامة، حيث يسعى للإستفادة من الصراعات المذهبية والأثنية والعرقية.

إنطلاقاً من هذه المعطيات، يمكن القول أن هناك تقدماً نوعياً على مستوى الحرب على "داعش" في الجانب العسكري، بعد تعرض معاقله الأساسية لضربات موجعة وهزائم متتالية، دفعته إلى التخلي عن نظرية التمسك بالأراضي والمساحات التي يسيطر عليها، لكن في المقابل لدى التنظيم قدرة عالية على التكيف مع هذا الواقع، فهو سبق أن خاض هذه التجربة بين عامي 2007 و2008 في العراق (كان يعرف باسم دولة الاسلام في العراق)، وحينها عمد إلى الإنسحاب من المدن وإنتظار الفرصة المناسبة للعودة من جديد، التي كانت في العام 2011 مع إنطلاق الأحداث السورية، لكن الجديد اليوم هو أن "داعش" لن يقدم على الإبتعاد عن الواجهة، بل على العكس سيسعى إلى إثبات قوته عبر العمليات الإرهابية الضخمة، نظراً إلى حاجته لها بعد إعلان "الخلافة" التي تمثل قيمة معنوية كبيرة لمؤيديه.

من حيث المبدأ، يمكن قراءة الإستراتيجية المعتمدة من جانب هذا التنظيم الإرهابي عبر عاملين: الإصدارات التي يطلقها بين الحين والآخر، والعمليات التي يتبناها في بلدان مختلفة، وهي تقوم بشكل أساسي على لامركزية الهجمات، عبر حث كل من هو مؤيد أو متعاطف على تنفيذ أي عمل يلحق ضررا بالعدو المفترض أو مصالحه، والتي تظهر عبر ما يعرف بـ"الذئاب المنفردة"، أي الأفراد الذين يقومون بعمليات إرهابيّة من دون أن يكونوا منتمين إلى بنية تنظيمية واضحة على مستوى التوجيه والتخطيط، الأمر الذي يعقد من عملية متابعتهم من جانب الأجهزة الأمنية المختصة، نظراً إلى أنهم قد لا يكونوا من أصحاب السوابق، وهم فقط تأثروا بالدعاية التي يقوم بها التنظيم، لا سيما على مواقع التواصل الإجتماعي، والدليل تأخر "داعش" بالإعلان عن التبني الرسمي في أغلب الهجمات الأخيرة.

في المحصلة، لا يجب إستبعاد قيام "داعش"، أو المؤيدين والمتعاطفين معه، بأي عمل إرهابي في المرحلة المقبلة، والخطر لا يستثني دولة من الدول، بالرغم من التركيز الحالي على الأراضي التركية.