متى سيبدأ إستخراج النفط والغاز من المياه الإقليميّة اللبنانيّة، وهل من عوائق قد تُوقف هذا المشروع؟ ومتى سيبدأ لبنان بتحقيق الأرباح المالية، وماذا سيفعل بها؟ وماذا سيصل إلى جيوب اللبنانيّين من أموال ملفّ النفط والغاز، ومتى؟ أسئلة كثيرة تُراود اللبنانيّين، وأحلام متفائلة تُدغدغ عُقول الكثيرين منهم... فماذا عن الحقيقة؟

على الرغم من تراجع أسعار النفط، وكذلك الغاز، بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية(1)، لأكثر من عامل وسبب(2)، فإنّ مادتي النفط والغاز سيبقيان حاجة أساسيّة للعالم في العُقود القليلة المقبلة، خاصة وأنّ وتيرة نموّ الطاقات الرديفة والبديلة، ومنها على سببيل المثال لا الحصر طاقة الدفع الكهربائي للسيارات، لا تزال بطيئة ولا تُشكّل رقمًا مُهمّا من الناحية الإقتصاديّة. وبالتالي، الأنظار مُوجّهة إلى المخزون النفطي والغازي اللبناني، كما هي الحال مع باقي الحُقول الإقليميّة والدَوليّة المُكتشفة-أو أقلّه، المُعلن عنها حديثًا. فهل نحن على الطريق الصحيح، للشروع في إستغلال ما اصطلح على تسميته "الذهب الأسود"؟

الخبراء والمُتخصّصون في المجال النفطي أفاضوا في شرح الموضوع من الناحية التقنيّة، حيث أنّ عمليّات إستخراج النفط والغاز وبيعه وتصديره تمرّ بمراحل عدّة، بدأت عمليًا-وبعد طول تأخير، بإقرار الحكومة الجديدة مرسومي تحديد عدد البلوكات التي ستبدأ أعمال التنقيب فيها، وتحديد شروط الإنتاج ككل(3). وبالتالي، في حال سارت الأمور كما هو مُخطّط لها، فإنّ العائدات الماليّة على الإقتصاد اللبناني لا تبدأ بعد فترة الشروع في أعمال التصدير التي يُمكن أن تستغرق نحو 10 سنوات من تاريخ اليوم، بل قبل ذلك بكثير، لأن الشركات التي ستُكلّف بأعمال التنقيب والإستخراج والتصدير، ستُباشر فور توقيع العُقود مع السلطات المعنيّة في لبنان، بضخّ الأموال الإستثماريّة، وبتحضير البنى التحتيّة المناسبة. وهذا الأمر سيعود بالفائدة على قطاعات عدّة، تأتي في طليعتها مكاتب السفر الجوّي والشحن البحري والخدمات الفندقيّة، والمصارف وشركات التأمين اللبنانيّة، والشركات التي تُقدّم خدمات إستشارية وقانونيّة ومحاسبة ماليّة، إضافة إلى البدء بتوظيف مهندسين وتقنيّين وفرق عمل يدويّ متعدّدة، إلخ. وكلّما إقتربنا من مرحلة الشروع في الإنتاج والتصدير، كلّما زادت المبالغ الإستثماريّة المُسبقة، وزادت فرص العمل المُتاحة أمام اللبنانيّين، ولوّ ضمن قطاعات مُحدّدة. وبالنسبة إلى الفوائد التي ستلحق بالدولة اللبنانيّة، فأبرزها حلّ مُعضلة تأمين الكهرباء، ووقف النزف المالي في هذا القطاع، وتأمين مداخيل مالية ثابتة وضخمة، لا سابق لها في لبنان.

لكنّ في مُقابل الأجواء المُتفائلة، لا بُد من الإشارة إلى وجود مجموعة من العوامل التي يُمكن أن تُهدّد الملفّ النفطي-الغازي برمّته. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أولاً: تُواصل إسرائيل عقد إتفاقات طويلة الأمد مع تركيا و​الأردن​ وحتى مع مصر والفلسطينيّين، لتصريف إنتاجها إقليميًا، وكذلك لتكون تركيا معبرًا لتصدير النفط والغاز الإسرائيليّين إلى أوروبا والعالم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى قبرص التي خطت خطوات مُتقدّمة عن لبنان في هذا المجال، في ظلّ وساطات عالمية لتوحيد الجزيرة، بهدف تعزيز قدراتها الإنتاجيّة. حتى أنّ العهد الحالي في مصر أمر بإعادة تحريك ال​ملف النفط​ي في البلاد بسرعة، لعدم الغياب عن هذا القطاع الحيوي. وكل ما تقدّم يعني أنّ على لبنان عدم التباطؤ أكثر، لتعويض التأخير الذي لحق به من دون أسباب مُوجبة، وإلا فإنّه سيُصبح غير قادر على اللحاق بالدول المحيطة، وغير قادر على المنافسة.

ثانيًا: إنّ هيئات العمل التي شُكّلت حتى الساعة في الملف النفطي في لبنان، إستندت إلى معايير مُحاصصة وإلى إعتبارات مذهبيّة. حتى أنّ بعض النقّاد يستغربون التوافق على "بلوكات" مُحدّدة، وإهمال أخرى، في محاصصة سياسيّة وطائفيّة واضحة المعالم، ستُثير حفيظة الكثير من الجهات اللبنانيّة، وستتسبّب بمشاكل نحن في غنى عنها. ومن الضروري بالتالي، العمل بشكل شفّاف في هذا الملف الحسّاس، تفاديًا لفيتوات داخليّة في المُستقبل، يُمكن أن تعيد الأمور إلى نقطة الصفر.

ثالثًا: من الضروري عدم اللجوء إلى شركات تنقيب من دول إقليميّة أو من دول لا تتمتّع بالثقل الدَولي الكافي لتغطية الشق السياسي لعمليّات الإستخراج والتصدير والبيع في الأسواق العالميّة، لأنّ أيّ توهّم بإمكان خفض التكاليف عبر اللجوء إلى غير شركات الفئة الأولى والقويّة عالميًا، يعني تلقائيًا تعريض عمليّات التصدير والبيع لعشرات "الفيتوات" السياسيّة والإقتصاديّة، إلخ.

رابعًا: من الضروري ألاّ تلجأ الدولة اللبنانيّة إلى توظيف المكاسب المالية من قطاع النفط والغاز في تسديد الدين العام، لأنّ ذلك سيهدر هذه الأموال من دون أيّ فائدة تُذكر. والحل الأفضل يتمثّل بتسديد المُتوجّبات المُستحقّة على لبنان، والعمل على خفض قيمة الدين نتيجة تحوّل لبنان إلى دولة نفطيّة قادرة على الإلتزام بواجباتها، وبالتالي توظيف الجزء الأكبر من العائدات المالية في مشاريع إستثماريّة تحرّك الدورة الإقتصاديّة في لبنان، وتفتح أبواب فرص العمل أمام جزء كبير من الشعب اللبناني.

في الختام، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ جيوب اللبنانيّين لن تمتلئ بالأموال من عائدات النفط والغاز في المُستقبل القريب، لكنّ الأمور يُمكن أن تسلك طريقًا إيجابيًا في هذا الصدد، لبعض القطاعات وبشكل تدريجي، في حال صفت النيّات، وخُصوصًا في حال جرى وضع الملفّ برمّته بأيدي التقنيّين والمُتخصّصين، من دون التعامل معه من مُنطلق مُحاصصة سياسية ومذهبيّة، والتعاطي مع هذا الملفّ وكأنّه مكسب إضافي لبعض "الأزلام"، ورافعة إنتخابيّة لهذا أو ذاك!

(1) الرقم القياسي لسعر برميل النفط الخام سُجّل في حزيران 2008 وبلغ 139,05 دولارًا أميركيًّا، بينما يبلغ السعر اليوم أكثر بقليل من 50 دولارًا أميركيًّا.

(2) منها تحوّل الولايات المتحدة الأميركيّة من دولة مُستهلكة بشراهة، إلى دولة مُكتفية ذاتيًا، والإنكماش الإقتصادي في أوروبا وتباطؤ النموّ في الصين والهند، وإكتشاف حقول ضخمة من المُشتقات النفطيّة بشكل أثّر سلبًا على الأسعار، وتفلّت المُنافسة من أيّ ضوابط خاصة مع دُخول عوامل مُواجهات إقتصادية-سياسيّة، إلخ.

(3) هذه المسيرة تُستكمل بإقرار المشروع الضريبي المُرتبط بالأنشطة البتروليّة، ثمّ بتحديد الشركات التي ستفوز بمناقصات التلزيم، لتباشر هذه الأخيرة المسح الإشعاعي لمواقع العمل، وتقييم النتائج، ورفع برنامج الحفر إلى هيئة إدارة قطاع البترول. ثم تبدأ أعمال حفر الآبار لترسيم حقول إستخراج الغاز والمُشتقات النفطيّة ولمعرفة نوعية وكميّة المُشتقّات، بالتوازي مع تحضيرات لوجستيّة داخل الأراضي اللبنانيّة، وكذلك مع تحضير منصّات الإستخراج في البحر.