لا يمكن وضع ما يجري على الساحة السورية من تطورات في هذه الأيام، إلا في سياق التحولات التي تشهدها الساحتين العالمية والإقليمية، من تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى تصاعد التقارب بين موسكو وأنقرة، الذي ترجم عبر شن عمليات عسكرية مشتركة ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، وصولاً إلى قرب إنعقاد مؤتمر الآستانة، الذي يجمع المعارضة والحكومة السورية على طاولة مفاوضات واحدة، في 23 من الشهر الحالي.

على هذا الصعيد، ضغطت الحكومة التركية، في الفترة الأخيرة، على الفصائل السورية المعارضة لإجبارها على المشاركة في مؤتمر كازاخستان، نظراً إلى أنها تعهدت أمام نظيرتها الروسية بهذا الأمر، بعد نجاح الجانبين بالتوصل إلى إتفاق لوقف إطلاق النار يتعرّض لبعض الخروقات، إلا أن المفاجأة كانت بعدم قدرة أنقرة على إلزام حركة "أحرار الشام" بهذا التوجه، بسبب المخاوف التي لدى الحركة من ردة فعل جبهة "​فتح الشام​"، أي جبهة "النصرة" سابقاً، التي لا يشملها هذا الإتفاق، بسبب تصنيفها منظمة إرهابية إلى جانب تنظيم "داعش".

ما تقدم يقود إلى معادلة واضحة، أنقرة لم تعاد قادرة، بسبب تعاظم المخاطر التي تهدد إستقرارها الأمني والإقتصادي والسياسي، على الإستمرار بالسياسة السابقة نفسها، بعد أن أصبحت توصّف في وسائل الإعلام العالمية بأنها باكستان الثانية، في إشارة إلى الواقع الذي سيطر على الأخيرة نتيجة الأزمة الأفغانية، وهي تسعى إلى الوصول إلى أي تسوية تحفظ لها ماء الوجه، والطريق الوحيد أمامها هو التفاهم مع موسكو، التي تريد أيضاً الوصول إلى حل سياسي لأزمة سوريا يحفظ مصالحها، لكن ذلك سيكون على حساب أفرقاء آخرين، أبرزهم من يرفض الإلتحاق بهذا القطار من جانب فصائل المعارضة.

في هذا السياق، لم تكن "أحرار الشام"، أحد أبرز فصائل المعارضة، ترغب بالبقاء بعيدة عن طاولة الآستانة، خصوصاً أنها تعتبر من أهم حلفاء تركيا العاملين ضمن عملية "درع الفرات" العسكريّة، لكنها في المقابل تدرك أن هذا الأمر سيكون له تداعيات على علاقتها مع "فتح الشام"، التي تشعر بأن هناك محاولات إقليمية ودولية لعزلها، ولهذا كان "المخرج" بموقف "رمادي"، ينص على عدم مشاركتها في المؤتمر مع عدم الذهاب إلى تخوين أي فصيل قرر المشاركة، أي أن الحركة كانت تضع، لدى دراستها الموقف المناسب، على طاولة المباحثات خطر إغضاب الجبهة، خصوصاً أن الصراع بين الجانبين لم يعد سراً، وبالتالي هي لا تريد المغامرة ودفع أي ثمن من دون ضمانات، لا سيما أن الرهانات على نجاح الآستانة ليست بالكبيرة، وأقصى ما يمكن توقعه هو تثبيت إتفاق وقف إطلاق النار الهش.

وعلى الرغم من تبني "أحرار الشام" هذا الخيار، إلا أن "فتح الشام" لم تتردد في اليوم الثاني من مهاجمة مواقعها في قرية خربة الجوز بريف إدلب، الأمر الذي دفع القيادي في الحركة الفاروق أبو بكر إلى التعليق ساخراً: "مُميعة الأحرار يرفضون الذهاب للآستانة، لمنع عزل الجبهة واليوم أصحاب المنهج الصافي يردون الجميل بالهجوم على حواجز ومقرات الأحرار"، إلا أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، حيث عمدت عناصر "جند الأقصى"، التي بايعت مؤخراً "فتح الشام"، إلى شن هجمات جديدة، يوم أمس، على أغلب الحواجز التابعة لـ"أحرار الشام" بين قريتي إبلين والبارة في جبل الزاوية.

وعلى الرغم من إحتمال التوصل إلى إتفاق جديد لوقف هذه المواجهات، نظراً إلى أنها ليست الأولى من نوعها، والمعلومات تتحدث عن معالجة الأزمة في خربة الجوز، يبدو أن موعد الوصول إلى الصدام الشامل بين الجانبين إقترب، نظراً إلى الإختلاف الواضح في الرؤية إلى مستقبل الأزمة السورية، بين خيار يفضل الإلتحاق بالتسوية السياسية، برعاية تركية، وآخر لا يستطيع الخروج من دائرة الخيار العسكري حتى النهاية، بسبب إرتباطه العقائدي بتنظيم "القاعدة"، مع العلم أن "فتح الشام" أعلنت قبل أشهر عن فك إرتباطها مع هذا التنظيم، لكن هذا الأمر لم يغير من موقف أغلب القوى الإقليمية والدولية منها.

في المحصلة، أنقرة ليست بعيدة عن أي صراع بين "الجهاديين" على الساحة السورية، وتطور موقفها، في الأيام المقبلة، سيقود إلى تعزيز الخلافات فيما بينهما، فهي أكثر من يعرف خلفيات ما حصل وسيحصل في المستقبل القريب.