شيئاً فشيئًا، بدأت صورة "شبه الإجماع" التي حظي بها "العهد الجديد" بقيادة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تتقلّص، على خلفيّة البحث في ​قانون الانتخاب​، حتى أنّ سهام رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​، ومن خلفه رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، ولو بخجل، أخذت منحىً تصعيديًا خلال الساعات الماضية، لتطال قصر بعبدا بشكلٍ مباشر.

وبين الحديث غير البريء عن "انقلابٍ على اتفاق الطائف" تارةً و"تهويلٍ غير دستوري بالفراغ" تارةً أخرى، بدا "التيار الوطني الحر" مغتاظًا ممّا وُصِف بـ"السلبية المطلقة" التي يمارسها "البيك" خصوصًا في مقاربة قانون الانتخاب، خلافًا لما تمّ الاتفاق عليه مسبقاً، ليبقى السؤال: هل يُترجَم الفتور المتصاعد بين الجانبين بخطواتٍ عمليّة على الأرض؟

فتورٌ مُعلَن...

بدايةً، لا شكّ أنّ الفتور بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و"التيار الوطني الحر"، من جهة، و"الحزب التقدمي الاشتراكي" ورئيسه النائب وليد جنبلاط، من جهة ثانية، بات مثبتاً بالأدلة والوقائع، ولم يعد عبارة عن تكهّنات أو تحليلات من هنا أو هنالك. فإذا كانت الاتهامات التي وجّهها ممثلو "اللقاء الديمقراطي" خلال جولاتهم على مختلف الأفرقاء خلال الأيام الماضية بقيت مبطنة في إطار "الغمز واللمز"، فإنّ العودة إلى تغريدات رئيس "اللقاء الديمقراطي" عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدت أكثر من واضحة، ولا تحتمل اللبس بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصًا لجهة انتقاده الصريح لـ"التهويل بالفراغ"، في ردٍ مباشر على التصريحات الأخيرة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون.

وإذا كان "الاشتراكي" شعر في مكانٍ ما بأنّ هناك من يسعى لـ"إحراجه فإخراجه" في موضوع قانون الانتخاب تحديدًا، بدليل استثنائه "غير العفوي" من اللجنة الرباعية التي تبحث في الصيغ المقترحة لقانون الانتخاب، فإنّ ما يزعج "التيار" في الموضوع كلّه أنّ "الاشتراكي" يتعاطى مع قانون الانتخاب بعقليّةٍ منغلقةٍ إلى حدّ كبير، إذ يرفض مجرّد البحث بمبدأ النسبية، وكأنّه يريد فرض تكريس قانون الستين النافذ، غير آبهٍ بكلّ الوعود التي قطعها الرئيس عون تحديدًا للشعب بإجراء الانتخابات المقبلة وفق قانونٍ عصري وحضاري، قوامه النسبية بطبيعة الحال. وانطلاقاً من ذلك، لا يرى "التيار" في تصاعد اللهجة "الجنبلاطية" رويدًا رويدًا من هواجس المكوّن الدرزي بدايةً وصولاً إلى الانقلاب على الطائف مروراً بالحديث عن "إلغاء سياسي ممنهج" سوى حملات شخصية سيكون العهد هو الخاسر الأول والأكبر منها، ومن دون منازع.

وإذا كان الفتور بين "الاشتراكي" و"التيار" وصل إلى درجةٍ عالية من الوضوح، فإنّ الفتور في المقابل بين "التيار" و"المستقبل" يبقى أقلّ حدّة، خصوصًا مع إصرار الجانبين على توصيف العلاقة بين الرئيس عون ورئيس الحكومة سعد الحريري بالممتازة، ورفض تشبيهها بالعلاقة المتوترة دومًا التي كانت قائمة بين رئيسي الجمهورية والحكومة السابقين إميل لحود ورفيق الحريري في وقتٍ سابق. وإذا كان حضور "المستقبل" في اللجنة الرباعية يخفّف من "البرودة" بين الجانبين، فإنّ وقوفه عمليًا خلف "الاشتراكي" لا يسهّل الأمور بتاتًا، بل يعقّدها، وينبئ بما هو أكثر سوءاً، خصوصًا إذا ما شعرت ثنائية "المستقبل" و"الاشتراكي" بالتهديد الجدّي، وقرّرت الانتقال من "التنظير" إلى "الفعل".

السحر ينقلب على الساحر؟!

يصرّ "التيار الوطني الحر" على أنّ النسبية في قانون الانتخاب هي مدخلٌ إلزامي لبناء الدولة، خصوصًا بعدما اصطدمت "الصيغ المختلطة" بالحائط المسدود، ويرفضها "المستقبل" و"الاشتراكي" بالمُطلَق، ويعتبرانها "مشروع إلغاء سياسي" لهما.

وبغضّ النظر عن "أحقية" موقف كلّ من جنبلاط والحريري، خصوصًا أنّ جميع الخبراء يسجّلون للنسبية أنّها، بعكس ما يقولون، لا تلغي أحداً، بل تمنع احتكار التمثيل وتفسح في المجال أمام تمثيل جميع القوى السياسية والمدنية، على حدّ سواء، فإنّ الرجلين لا يبدوان قلقين على الإطلاق من مسار الأمور، منطلقين من "سلاحٍ فتّاك" يقولان أنّه بيدهما، ألا وهو "الميثاقية".

هي "الميثاقية" نفسها التي لطالما رفع "التيار الوطني الحر" لواءها، يوم كان في صفوف "المعارضة" سواء داخل الحكومة أو خارجها، لمنع تمرير أيّ بندٍ لا يرضى عنه، بوصفه ممثل المسيحيين في السلطة، يستعدّ اليوم "المستقبل" و"الاشتراكي" ليشهرا سيفها بوجهه، إذا ما اضطرا، كمن يريد أن يقول له أنّ "السحر انقلب على الساحر". ويعتبر الجانبان أنّ المسألة لا يمكن أن تكون استنسابية بهذا المنظار بأيّ شكلٍ من الأشكال، لأنّه إذا كان هناك من جادل "التيار" سابقاً في مبدأ احتكاره التمثيل المسيحي في ظلّ وجود أحزابٍ مسيحية أخرى في السلطة، على غرار "الكتائب" أو "القوات" أو من اصطلح على تسميتهم بـ"المسيحيين المستقلين"، فإنّ أحداً لن يستطيع أن يناقش بتمثيلهما للمكوّنين الدرزي والسنّي في السلطة، رغم إدراك الجميع لوجود حيثية فعلية لمعارضة درزية وسنّية، ولكنّها لا تزال مغيّبة عن القرار السياسي.

ولا يكتفي "المستقبل" و"الاشتراكي" بذلك، بل يلوّحان بالعديد من الخطوات التي يمكن أن يلجآ إليها في حال ارتأى البعض "القفز" فوق هواجسهما في نهاية المطاف، وهي خطواتٌ كان "التيار" أيضًا سبّاقاً ليس فقط في اعتمادها، بل في التلويح بها حتى وهو في "رأس السلطة"، في إشارة إلى لعبة الشارع التي كان رئيس "التيار" وزير الخارجية جبران باسيل أول من هدّد باللجوء إليها في سبيل "فرض" قراره في ما يتعلق بقانون الانتخاب، الأمر الذي لم ينزل برداً وسلامًا على "المستقبل" و"الاشتراكي" اللذين يعتقدان أنّهما قدّما من التنازلات والتضحيات في استحقاق الرئاسة وما قبله وبعده ما يكفي، وحان الوقت ليقدّم الآخرون التضحيات المتوجبة عليهم في المقابل، بدل أن يستقووا بالشارع ليكرّسوا منطق فرض خياراتهم على الآخرين بكلّ بساطة.

المصالح أولاً...

شيءٌ واحدٌ يبدو أكيدًا وسط كلّ ذلك، وهو أنّ مصالح الطبقة السياسية المتحكّمة بالبلاد والعباد تطغى على كلّ ما عداها، وكلّ الطرق تقود إلى "خدمتها" بالدستور والقانون والعرف، قبل كلّ شيء.

هكذا، قد يكون "التيار" محقاً بالمطالبة بالنسبية، بوصفها الأكثر عدالة وتمثيلاً، وقد يدين "الاشتراكي" و"المستقبل" نفسيهما بشكلٍ مباشر بالقول أنّهما ضدّها لأنّها تضرّ بهما على الصعيد الشخصي، ويتباهان مع ذلك أنّهما قادران على إسقاطها، بقوة الميثاقية.

ويبقى السؤال إزاء كلّ ذلك، هل يبقى الشعب متفرّجاً، وهو يدرك أنّ السلطة باتت تتعامل معه كـ"دمية" بيده تحرّكها كيفما تشاء، أم يثور أخيراً، حفاظاً لكرامته في وجه مغتصبيها أولاً وأخيراً؟