منذ إعلان النوايا بين "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​"، والذي ترجِم عمليًا في الانتخابات البلدية ومن ثمّ الرئاسية، وساهم في إيصال العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، تظهر الثنائية المسيحية المستجدّة على وفاقٍ تام، يعزّز من قوتها وأهميتها "الامتعاض الواضح" الذي انتاب ولا يزال معارضيها، خصوصًا على الساحة المسيحيّة.

وعلى الرغم من حرص "التيار" و"القوات" على إبراز الانسجام الكامل في مرحلة البحث في قانون الانتخاب، في ضوء الخلافات السياسية المتصاعدة والمتفاقمة على خلفية هذا القانون، إلا أنّ شكوكاً متبادلة بين الجانبين بدأت تطفو إلى السطح، ليُطرح السؤال عمّا إذا كنّا أمام "تمايز" من شأنه تهديد "شهر العسل" بين الجانبين، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه اختلافاً في الآراء، وربما توزيع أدوار ليس إلا!

شكوكٌ وتباينات...

عندما أبرم التفاهم بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، منهيًا تاريخًا طويلاً من الصراع غير التقليدي بين الجانبين، والذي اتّخذ في الكثير من المراحل منحىً دمويًا، تنفّس اللبنانيون الصعداء، لكنّ قسمًا غير يسير منهم سارع لاعتبار الاتفاق "مرحليًا ومؤقتًا"، باعتبار أنّه مرتبط بسياسة "التيار" الانفتاحية على جميع الأفرقاء، لتأمين وصول مؤسّسه العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وهو ما حصل.

رفض المعنيّون هذا التفسير، وجزموا أنّ الاتفاق سياسي شامل وطويل الأمد، داعين من وضعوا أنفسهم في موقع "المتضرّر" منه إلى الالتحاق بهم لتفادي "الندم" في وقتٍ لاحق. وعلى الرغم من حفاظ الجانبين على "تموضعاتهما السياسية المضادة"، خصوصًا في مقاربة قضايا المنطقة الاستراتيجية، حرصا على ترجمة القول بالفعل، فكان لتحالفهما ثقلٌ أساسي وجوهري في مختلف الاستحقاقات.

ومع افتراض "حسن النوايا" بين الجانبين، وهو ما لا يمكن التشكيك به بطبيعة الحال، إلا أنّه لم يستطع دحض "الشكوك المتبادلة" التي عادت إلى الظهور تدريجًا، وإن بخجل، على خلفية النقاشات حول قانون الانتخاب. ولعلّ التوجّس الأول كان من نصيب "التيار" إزاء تصريحٍ لرئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ سعى من خلاله لـ"طمأنة" رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط بأنّه لن يسير بأيّ قانون انتخابي لا يوافق عليه الأخير، رغم أنّ "البيك" أصبح في "حربٍ" شبه مُعلنة مع "التيار"، وهو الذي لا يتمسّك بقانون الستين النافذ فحسب، بل يرفض أيّ شكلٍ من أشكال النسبية بالمُطلَق في أيّ قانونٍ انتخابي.

من القانون إلى السياسة...

وإذا كانت تصريحات جعجع أيقظت "الريبة" في صفوف "التيار" من أن يعيد التاريخ تجربة "القانون الأرثوذكسي"، الذي انقلب "القواتيون" عليه في اللحظة الأخيرة بموجب توافقٍ مع "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، وهما، للمفارقة، من يتصدّيان اليوم لمشروع "التيار" الانتخابي الأول، أي النسبية، فإنّ استثناء "القوات" من اللجنة الرباعية التي كُلّفت بحث الصيغ الانتخابية المتداولة لم ينزل عليها بردًا وسلامًا، وإن حرص "الوطني الحر" على القول أنّه ينسّق معها في الشاردة والواردة، خصوصًا أنّ مثل هذا "المنطق" كان يمكن أن يسري على "حزب الله" و"حركة أمل" مثلاً، المتواجدين في اللجنة، رغم توافقهما الظاهر وتنسيقهما التام، ما أوحى أنّ "في الأمر إنّ".

وإذا كان قانون الانتخاب فرّق، "تقنيًا" ربما، الحليفين الجديدين عن بعضهما البعض، فإنّ "الشكوك" بينهما تشمل الأمور السياسية أيضاً. على سبيل المثال، كان صعبًا على "القوات"، التي يصرّح رئيسها كلّ يوم أنّ مواقف الرئيس ميشال عون اختلفت رأسًا على عقب بعد وصوله إلى الرئاسة، أن تهضم تصريحات للأخير لوسائل إعلامية فرنسية وعالمية جزم فيها أنّ الرئيس السوري بشار الأسد باقٍ، وأنّه من يمثّل الشرعيّة السوريّة. ويسري الأمر نفسه على العلاقة مع "حزب الله"، التي يصرّ الأخير على إبقائها في إطار "الحدّ الأدنى" رغم كلّ محاولات "القوات" الانفتاحيّة، والتي تكاد تصل إلى حدّ "إعلان الطاعة والولاء"، الأمر الذي يجعل "القوات" تشعر أنّها لا تزال مُستهدَفة من قبل الحزب، في حين أنّ "التيار" يكتفي بالتفرّج، من دون أن يفعل شيئًا لمنع ذلك، أو على الأقل ليتوسّط لها عند حليفه الأقرب.

مصلحة متبادلة...

انطلاقاً من كلّ ما سبق، يبدو واقعًا أنّ العلاقة بين "التيار" و"القوات" لم ترتقِ إلى حدّ "التحالف الكامل" على كلّ، حيث لا تزال بعض "الثغرات" تقف عائقًا في طريقها. ولكن، رغم ذلك، يصرّ قياديّو الجانبين على فرش الطريق بالورود، ولو ظاهريًا. ولعلّ ما يفسّر هذا الأمر هو أنّ التفاهم بين الجانبين لم يستنفد أهدافه بعد، وأنّه لا يزال يشكّل "مصلحة متبادلة" بين كلّ من "التيار" و"القوات"، تعلو فوق كلّ الاختلافات والتباينات، التي تبقى هامشيّة، لا تقدّم ولا تؤخّر شيئًا في المعادلة حتى إشعارٍ آخر، خصوصًا أنّ تفاهمهما سيساهم في صنع انتصارٍ انتخابي وسياسي لكليهما، فرادى وجماعة.

وفي هذا السياق، يرى "التيار" أنّ مصلحته الانتخابية والسياسية تكمن في البقاء إلى جانب "القوات"، فرئيس الجمهورية العماد ميشال عون سيحتاج إلى حليفٍ بحجمها في الساحة المسيحيّة لتجاوز كلّ محاولات إفشال العهد التي لم تعد خافية على أحد، وهو عندما يتفوّق على كلّ أسلافه من رؤساء ما بعد الطائف، فيهوّل تارةً بالفراغ، ويطرح الاستفتاء تارةً أخرى، إنما يستقوي بحلفائه، وعلى رأسهم "القوات". إلى ذلك، لا يزال "التيار الوطني الحر" مقتنعًا بأنّ ثنائيّته مع "القوات" قادرة على "اجتياح" الساحة المسيحيّة، أياً كان قانون الانتخاب الذي سيُعتمَد في نهاية المطاف، ما يخدم رغبته الشديدة بتوجيه "الرسائل" إلى الفرقاء الذين تحدّوه ووقفوا في وجهه، وبعضهم لا يزال يكابر على نفسه حتى اللحظة ويرفض الاستسلام وإعلان الهزيمة.

ولا تبدو "القوات" بعيدة عن هذا المنحى، هي التي تجد في تحالفها مع "التيار" فرصةً لتوسيع حجمها التمثيلي إلى الحدّ الأقصى، وصولاً حتى تقاسم كرة التمثيل بينها وبينه دون سائر الأفرقاء، فضلاً عن اعتقادها بأنّ الاحتفاظ بموقعها كـ"عرّابة للعهد"، بغضّ النظر عن كلّ التفاصيل، يؤمّن لها استقراراً سياسيًا هي بأمسّ الحاجة له، هي التي تسعى عمليًا لتكون المقصودة فعلاً بكلام رئيس الجمهورية عن "خلافة جيّدة" لعهده، خصوصًا أنّ طموح "الحكيم" الرئاسي لم يعد خافيًا على أحد.

المصالح أولاً... وأخيراً!

لا يمرّ يومٌ إلا ويخرج مسؤولٌ من "التيار الوطني الحر" وآخر من "القوات اللبنانية" ليؤكدا متانة "التحالف" بين الجانبين، وقوة "الحصانة" التي يتمتّع بها، والتي تجعله قادرًا على الصمود في وجه كلّ محاولات "الغيارى والحاقدين" وضع العصيّ في دواليب "التفاهم" وزرع الأشواك على طريقه، بالجملة.

يكفي ذلك للتأكيد على أنّ لغة المصالح هي التي تعلو فوق كلّ ما عداها من اعتبارات، من دون أن يعلو عليها تباينٌ من هنا أو توجّسٌ من هناك، فالسياسة فنّ الممكن، لدرجة يكاد يصبح شعارها "المصالح أولاً... وأخيراً"!