لا تترك ​اسرائيل​ مناسبة دولية الا وتتبجح فيها انها مرتع للحريات والديمقراطية واحترام حقوق الانسان، وحين يعمد احد ما الى مهاجمة المسؤولين الاسرائيليين وسياساتهم، تحضر بشكل فوري تهمة "اللاسامية" ويصبح الاسرائيليون بسحر ساحر، من المظلومين والمستهدَفين.

اليوم تعود قضية الضحية والجلاد الى الواجهة، انما من باب مفهوم اسرائيلي محض، يعكس الحقائق والوقائع والمنطق. ويشهد المجتمع الاسرائيلي انقساماً كبيراً وتوجهاً جدياً للعفو عن الرقيب ايلور عازاريا الذي قتل الفلسطيني عبد الفتاح الشريف برصاصة استقرت في رأسه، علماً ان الشريف كان مصاباً برصاص رفاق عازاريا وملقى على الارض دون القدرة على المقاومة.

معطيات عدة يجدر التوقف عندها: اولاً ان الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية الاسرائيلية قضى بحبس عازاريا لمدة سنة ونصف فقط، علماً ان الجريمة التي ارتكبها تعتبر قتلاً بدم بارد وليس دفاعاً عن النفس. ويحاول الكثيرون في اسرائيل تبرير وجوب الاعفاء عن الرقيب القاتل، بحجة ان الشريف كان "ارهابياً"، ولكن حتى لو سلمنا جدلاً بأنه كان "ارهابيا" بالفعل، فلا يجوز ان يتم قتله بدم بارد، والا يتم تشريع قتل كل شخص يعتدي على آخر. على الرغم من تعاطفنا مع من يحارب الارهابيين والمنظمات الارهابية كـ"داعش" و"النصرة" وغيرهما، الا ان هذا الامر يحصل خلال الاشتباكات والمواجهات العسكرية فقط.

هل سنة ونصف السنة كافية بالفعل كحكم صادر نتيجة قتل مصاب بدم بارد؟ وحتى هذا الامر لم يقنع المسؤولين في اسرائيل وشريحة كبيرة من الاسرائيليين الذين بدأوا يعدّون العدّة لمنح عازاريا العفو. ووفق اخر استطلاعات الرأي، فإن 69% من المستطلعين الاسرائيليين ابدوا دعمهم للافراج عن الرقيب القاتل، فيما اعتبر 56% ان الحكم الصادر بحق عازاريا كان قاسياً. ولم تتأخر الطبقة السياسية والعسكرية الاسرائيلية في تلقف هذه الاحصاءات، فانهالت المواقف من رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو الى الوزراء والمدراء العامين للمطالبة بالعفو عن عازاريا، بينما اعتبر رئيس الاركان غادي ازينكوت ان المسألة اضرّت بالرقيب وب​الجيش الاسرائيلي​ موجهاً اتهامات الى البعض بـ"تلفيق امور" و"تضخيم الموضوع" من اجل الحاق الاذى بمعنويات الجيش الاسرائيلي.

ويبدو ان هذه الذريعة غالباً ما تؤتي ثمارها، فيعمد المعنيون الى "تخويف" الاسرائيليين من ان التعرض للجيش سيؤدي الى بقائهم "ضحايا" امام الفلسطينيين دون القدرة على الردع او المقاومة، لتبقى العناصر الاسرائيلية منزّهة عن اي ملاحقة قانونية او اخلاقية او قضائية او غيرها... فتخرق ما تشاء من القوانين والاعراف، وتبقى وفق "البروباغاندا" الاسرائيلية "مظلومة".

صحيح انها المرة الاولى التي يحاكم فيها جندي اسرائيلي منذ اكثر من عقد من الزمن، الا ان النتيجة لا تعبّر عن سعي اسرائيلي الى الديمقراطية وحقوق الانسان، بل امعان في الابتعاد عنهما بكل الوسائل المتاحة، وتغيير المعايير والاعراف والمواثيق لتتلاءم مع وجهة نظر واحدة فقط لا غير.

الى متى ستستمر اسرائيل في فرض قوانينها على العالم دون ان يردعها احد؟ هل من دولة تجرؤ على القيام بما تقوم به، ليس فقط فيما خص الارتكابات والاعتداءات، بل ايضاً منع نواب اوروبيين من الدخول الى قطاع غزة، كما حصل منذ يومين؟ وعلى الرغم من ذلك، لم تتفاعل المسألة وبقي هؤلاء خارج القطاع، ولم يحرّك احد ساكناً. وماذا عن الاستيطان وضرب القوانين الدولية وقرارات الامم المتحدة؟ من يجرؤ على مثل هذا التحدي سوى اسرائيل؟

في القرن الحادي والعشرين، تسير اسرائيل عكس التيار وتفرض تحويل المفهوم ليصبح القاتل ضحية والضحية مجرماً، ويبقى العالم كله على خطأ فيما تمتلك وحدها الحقيقة الكاملة، والافظع من كل ذلك ان ما يحصل يحظى بغطاء ورعاية دولية...