ست سنوات كاملة مضت والحرب السوريّة الدامية والمُدمّرة لم تنته فصولاً بعد! صحيح أنّ نظام الرئيس السوري بشّار الأسد لم يسقط بسبب الدعم العسكري المُباشر الذي تأمّن له عبر إيران ومجموعات مُموّلة ومسلّحة من قبلها بداية، ثم عبر روسيا في مرحلة لاحقة، وصحيح أنّ ​الجيش السوري​ إستفاد من هذا الدعم الميداني الكبير لإستعادة أغلبيّة المناطق السوريّة الرئيسة، لكنّ الأصحّ أنّ بعض المُدن والكثير من الأرياف لا تزال خارج سيطرته، وهي حاليًا محور قتال متعدّد الأطراف للسيطرة عليها. واللافت أنّه على وقع المعارك المُتفرّقة التي لا تزال قائمة على الرغم من إتفاق وقف النار الذي جرى التوافق عليه نهاية العام 2016 الماضي، يتمّ تنظيم المؤتمر تلو المؤتمر، تارة في آستانة وطورًا في جنيف، على أمل الخروج باتفاق تسوية. فهل من نهاية قريبة لهذا النفق المُظلم؟

لا شكّ أنّ جُهودًا دوليّة مُضنية تُبذل منذ مدّة غير قليلة لإنهاء الحرب السوريّة، لكن من دون تسجيل نتائج مُهمّة بعد، وذلك بفعل وجود العديد من العقبات والمشاكل التي لم يتمّ التوافق على صيغة تسوية بشأنها. وأبرزها:

أوّلاً: مُشكلة إصرار الرئيس الأسد على البقاء في السلطة مُنطلقًا من موازين القوى على الأرض والتي صارت مائلة بوضوح لصالحه، الأمر الذي دفعه إلى التشدّد في رفض كل ما يُقترح من قبل مُعارضيه والدول والجهات الداعمة لهم، بضرورة وضع تاريخ مُحدّد لنهاية ولايته الرئاسيّة، على أن تُدير حكومة موقّتة تُمثّل كل الأطراف البلاد لفترة إنتقالية تنتهي بإجراء إنتخابات نيابيّة عامة، ثم رئاسيّة، وذلك بإشراف من الأمم المتحدة.

ثانيًا: مُشكلة طبيعة الدولة السورية وطبيعة الحُكم فيها بعد إنتهاء العمليّات العسكريّة،حيث لا رؤية واضحة حتى اليوم بين القوى والدول المُتصارعة على الأرض السوريّة، بالنسبة إلى من سيحكم سوريا في المُستقبل، وكيف سيكون الحكم، وما هي مواد الدستور الجديد، ومن ستضمّ الحكومة، وكيف ستجري الإنتخابات ووفق أي قوانين، وكيف سيتمّ إعادة بناء الجيش، وما مصير الوحدات التي إنشقّت منه، وعشرات الملفّات الأخرى التي لا تزال من دون حلول حتى تاريخه. والمُفارقة أنّ بعض الخُصوم والأعداء يقفون في صفّ واحد إزاء بعض البنود، على غرار رفض كل من إيران وتركيا تقسيم سوريا إلى "كانتونات" مذهبيّة وعرقيّة كما كانت تُخطط الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك نتيجة رفض أنقره لأي "كانتون" كردي قد يتحوّل مع الوقت إلى نواة لدولة كردية على حدودها يُمكن أن تستقطب جزءًا مًهمّا من أكراد تركيا، وكذلك نتيجة رفض طهران لأيّ تقسيم مذهبي، لأنّه سيعني عمليًا سيطرة الدُويلة السنّية على الدُويلة العلويّة-ولوّ بعد حين، وذلك بسبب الفارق العددي الشاسع بين الطرفين.

ثالثًا: مُشكلة المُقاتلين الأجانب، إن الذين يدعمون النظام والجيش السوري وهم من لبنان والعراق وإيران واليمن وحتى من أفغانستان وباكستان وطاجيكستان، أو الذين يدعمون فصائل المُعارضة بمختلف تلاوينها، وهم من دول الخليج العربي واليمن والأردن ولبنان، ومنهم من يحمل هويّات أجنبيّة لكنّه من أصول عربيّة وإسلاميّة، ومنهم جاء من الشيشان ومن غيرها من الدول الآسيويّة. وإذا كان قُسم من هؤلاء يُمكن أن يخضع لانسحاب مُنظّم من سوريا، فإنّ قسًمًا آخر سيبقى يُقاتل حتى الرمق الأخير ما لم يتم إيجاد مخارج آمنة له، علمًا أنّ الكثير من الدول التي توافد منها مُعارضو الرئيس الأسد، ترفض إعادة إستقبال هؤلاء الشبُان والرجال الذين كسبوا خبرات قتالية وأمنيّة، وأصبحوا أكثر ميلاً للعنف من أيّ وقت مضى.

رابعًا: مُشكلة النازحين الذين يُقدّر عددهم بنحو 7 ملايين لاجئ توزّعوا بين تركيا ولبنان والأردن، مرورًا بالدول الأوروبيّة المختلفة، وُصولاً إلى كندا. وقسم كبير من هؤلاء لا يُريد العودة إلى سوريا، إمّا خوفًا على حياته، أو لأنّه نجح في الإستقرار ماديًا وإجتماعيًا في الخارج، أو حتى لأنّه لا يزال يطمح بمُستقبل أفضل. كما ترفض دمشق بحزم أيّ إقتراحات بإقامة "مناطق آمنة" لا داخل سوريا ولا في مناطق حُدوديّة، بينما تعتبر أنقره أنّ هذا الخيار لا مفرّ منه خلال المرحلة الإنتقاليّة.

خامسًا: مُشكلة المُعتقلين والمفقودين السوريّين حيث يتبادل أطراف الصراع الإتهامات بشأن عمليات قتل وإخفاء قسري لمئات الآلاف، في ظلّ رفع كل من الطرفين لوائح طويلة لمفقودين لا تعترف بوجودهم أيّ جهة، الأمر الذي يزيد من صعوبة حل هذه المسألة المُعقّدة والحسّاسة.

سادسًا: مُشكلة تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية في سوريا، حيث يُحاول أكثر من طرف قضم أكبر مساحة جغرافية مُمكنة على حساب هذه التنظيمات التي صارت حاليًا بحكم "المَغضوب عليها" من أغلبيّة القوى الإقليمية والدَولية التي تتصارع على الأرض السوريّة. وما المعارك التي تدور في سوريا حاليًا سوى ترجمة للخُطط الموضوعة من قبل أكثر من طرف للسيطرة على الرقّة بعد دحر إرهابيّي "داعش" منها في المُستقبل غير البعيد.

سابعًا: مُشكلة إعادة إعمار سوريا والتي تُقدّر تكاليفها الباهظة بأكثر من 200 مليار دولار-على أقلّ تقدير، وشرط توقّف الحرب اليوم قبل الغد، وهذا يُمثّل عبئًا باهظًا لا يُمكن لأي جهة توفيره، وسيتسبّب بوقوع الدولة السورية في دين ثقيل لعقود طويلة. لكن لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الإحصاءات تُبيّن أنّ نصف الشعب السوري يُصنّف ضمن فئة الشباب، وهذا الأمر يصبّ في صالح الدول التي تخرج من الحروب عادة، نتيجة توفّر اليد العاملة المطلوبة. كما أنّ لجوء ملايين السوريّين إلى مختلف أصقاع العالم يعني تلقائيًا أنّ من سيعود منهم إلى وطنه، سيحمل معه أفكارًا إقتصاديّة وصناعيّة وتجاريّة مُتقدّمة ستصبّ بدورها في خانة إنهاض سوريا التي تملك موارد طبيعيّة من نفط وغاز ومعادن، ومن أراضي زراعيّة ومن موانئ بحريّة، يُمكن تحديثها وتوظيفها كلّها في مهمّة إعادة البناء. كما أنّ مشاريع إعادة الإعمار ستجلب المُستثمرين من مختلف أنحاء العالم، لأنّها ستُمثّل أرضًا خصبة لتحقيق مكاسب مالية ضحمة للشركات التي ستفوز بالمُناقصات.

في الخلاصة، يُمكن القول إنّ سوريا التي عرفناها لا يمكن أن تعود إلى سابق عهدها بعد مرور ست سنوات من الحرب الضارية التي لم تنته فُصولاً بعد. لكنّ المرحلة الحالية تُوحي بأنّه بعد إنهاء ظاهرة "داعش" وغيرها من التنظيمات الإرهابية على الأراضي السوريّة-بغضّ النظر عن الجهة أو الجهات التي ستُنفّذ هذه المهمّة، سترتفع فرص إيجاد حلّ أكثر من السابق، إنطلاقًا من الملفّات المذكورة أعلاه، لتبدأ سوريا بعدها عمليّة نُهوض شاقة وطويلة الأمد.