بدت معبّرة تلك الصورة التي انتشرت على هامش احتفال رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ بالذكرى الأربعين لاغتيال والده ​كمال جنبلاط​، والتي جمعته مع رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​، والنواب علي بزي ("حركة أمل") وحسين الحاج حسن وحسن فضل الله ("حزب الله").

ولعلّ قيمة هذه الصورة تكمن في كونها تستعيد في الشكل، وعشية انتخاباتٍ نيابيةٍ مفترضة، "التحالف الرباعي" الشهير الذي جمع الأطراف الاربعة نفسها في انتخابات العام 2005، والذي كان "التيار الوطني الحر" بقيادة رئيسه آنذاك رئيس الجمهورية حاليًا العماد ميشال عون المستهدَف الأساسيّ منه.

فما هي الرسائل التي أراد "البيك" إيصالها إلى الرئيس عون، ومن خلفه "التيار الوطني الحر" ككلّ؟ وهل من فرصٍ أصلاً ليبصر مثل هذا التحالف النور من جديد، في ضوء كلّ المتغيّرات والانقلابات التي حصلت خلال 12 عامًا؟

"الأمر لي"

بدايةً، لا شكّ أنّ هناك رسائل بالجملة أراد النائب وليد جنبلاط إرسالها في كلّ الاتجاهات من خلال الاحتفال الذي أقامه في ​المختارة​ لمناسبة الذكرى الأربعين لاغتيال والده مؤسس "الحزب التقدمي الاشتراكي" كمال جنبلاط، وقد وصلت إلى المعنيّين بها، على الرغم من أنّ الكلمة التي ألقاها "البيك" في المناسبة لم تحمل جديداً، وأتت أدنى بكثير من سقف التوقعات الذي رُسِم لها.

وفي هذا السياق، يمكن القول أنّ "الشكل" الذي أولاه جنبلاط أهمية استثنائية في احتفال المختارة هو الذي تولّى إيصال الرسائل، من دون أن يضطر الرجل ليقول كلمةً واحدةً خارج الطريق يمكن توظيفها ضدّه بشكلٍ من الأشكال. ويكفي أن يكون هذا الاحتفال هو الأول من نوعه منذ العام 2004، ليكون في مجرّد تنظيمه "رسالة سياسية" أراد إيصالها في هذا التوقيت بالذات، الذي تُناقَش فيه قوانين وصيغ انتخابية يشتمّ من الكثير منها رغبة بـ"تحجيمه" أو حتى بـ"عزله"، أو بالحدّ الأدنى، كسر احتكار "زعامته"، وفتح الطريق أمام قوى أخرى لتقاسمه إيّاها.

من هنا، تكاد عبارة "الأمر لي" تختزل الرسائل التي حرص "البيك" على توجيهها، ليُفهِم القاصي والداني من خلال الحشود الكبيرة التي نجح في تأمينها، بغضّ النظر عمّا إذا كانت فاقت التوقّعات والتقديرات أم لا، أنّ زعامته في الجبل ليست وجهة نظر، وأنّ الكلمة الأولى والأخيرة فيه هي من نصيبه، بعيدًا عن كلّ الأوهام التي قد تكون تولّدت لدى البعض، ويحاول ترجمتها بصيغ انتخابية شتّى، لا يُعرَف حابلها من نابلها. ومن هذه الزاوية بالتحديد، حرص الرجل على القول أنّ تخطي "الفيتو الجنبلاطي" في أيّ قانونٍ انتخابي هو من سابع المستحيلات، خصوصًا في ضوء وجود تسريبات توحي بإمكان السير في نهاية المطاف بصيغةٍ لا ترضي رئيس "اللقاء الديمقراطي"، لأنّ من يفعل ذلك لن يكون في مواجهة قائدٍ أو حزبٍ فقط، بل في مواجهة الجبل برمّته.

هكذا، يبدو واضحًا أنّ جنبلاط سعى، من خلال "استعراض القوة" الذي أقامه في المختارة، إلى تحصين أوراقه التفاوضية في النقاشات الدائرة حول قانون الانتخاب، ولكنّه أراد أيضًا تصويب السهام نحو "التيار الوطني الحر"، ولو بشكلٍ غير مباشر. فهو، وإن حرص في كلمته على أن يبدي الحرص على مصالحة الجبل، إلا أنّه أراد من خلف السطور أيضاً أن يكرّس زعامته على الجبل بدروزه ومسيحييه، وهذا ما يريد أن يضمنه في أيّ قانون انتخاب جديد.

ولا يخفى على أحد، انطلاقاً من ذلك، أنّ النائب جنبلاط يخشى أن يعمل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على استعادة تجربة الرئيس ​كميل شمعون​ في الجبل والانقسام الذي أحدثته بين مسيحييه ودروزه، وهو ما يتجلّى بشكلٍ خاص من خلال إصرار "التيار الوطني الحر" على "نغمة" انتخاب كلّ طائفة لنوابها، الأمر الذي يرى فيه جنبلاط مسعىً واضحًا لتضييق زعامته، بتحديدها بدروز الجبل فقط دون مسيحييه، وهو ما يرفض الخضوع له حتى إشعارٍ آخر.

التاريخ لن يعيد نفسه

وإذا كان جنبلاط لم يستسغ أيضًا طرح "التيار الوطني الحر" أن تكون رئاسة مجلس الشيوخ، إذا أنشئ، من نصيب المسيحيين وتحديداً الأرثوذكس، لا الدروز، وذلك عملاً بمبدأ المناصفة، فإنّ الصورة المسرّبة لجنبلاط والحريري ونواب "حزب الله" و"حركة أمل" لا يمكن أن تكون مجرّد صورة التُقِطت صدفةً، ولا دلالات لها، بل إنّ "البيك" تقصّدها ليقول إنّ توجّهات البعض قد تقود إلى إعادة إحياء هذا التحالف، الذي لا يخفي أصلاً "حنينه" إليه، وهو الذي يعتقد أنّه يحميه إلى حدّ كبير في وجه كلّ العواصف، ولا سيما تلك التي تحمل طابعًا طائفيًا ومذهبيًا.

ولكنّ أغلب الظنّ أنّ "الرسالة الجنبلاطية" في هذا الإطار تبقى "رسالة" ولا مجال لترجمتها على أرض الواقع، نظراً لما يمكن توصيفه بـ"شبه استحالة" قيام التحالف الرباعي من جديد، في ضوء التغييرات التي طرأت على خريطة التحالفات السياسية خلال السنوات الماضية، إذ لا يكفي رفع "البيك" لشعار "الكوفية الفلسطينية"، كما الترحيب الحار بقوى لطالما خاصمها وكاد يعاديها على غرار "حزب الله"، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وكأنّ شيئاً لم يكن.

من هنا، يمكن الجزم بأنّ التاريخ لن يعيد نفسه، وبأنّ التحالف الرباعي بالشكل الذي اتسم به في العام 2005 لا يمكن أن يبصر النور من جديد، لأسبابٍ واعتباراتٍ شتّى لعلّ أبرزها أنّ "المساكنة" بين بعض مكوّنات هذا التحالف، وتحديداً "حزب الله" و"تيار المستقبل"، لم يعد ممكناً لها أن ترقى لمستوى "التحالف"، وهما اللذان لم يحفظا "خط الرجعة" عندما رفعا الأسقف إلى أعلى الدرجات.

وأبعد من ذلك، يمكن القول أنّ أياً من أطراف التحالف الرباعي ليس مستعداً اليوم لفرط علاقته مع "التيار الوطني الحر" والرئيس عون، الذي لا يزال "حزب الله" مثلاً يعتبره خطاً أحمر، ويرفض كسره بأيّ شكلٍ من الأشكال، فيما يحرص "تيار المستقبل" على إبقاء "المرونة" في العلاقة معه، تفاديًا لتكرار الثنائية غير المنتجة التي اتّسمت بها العلاقة بين رئيس الجمهورية الأسبق العماد إميل لحود ورئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.

تحالف السلطة ينتصر...

صورة "التحالف الرباعي" بنسخةٍ منقّحة من المختارة لم تكن من باب "الصدفة" إذاً، "الصدفة" التي لعبت في المقابل دوراً في تزامن احتفال المختارة مع اعتصام ​المجتمع المدني​ في رياض الصلح، رفضاً لإمعان الطبقة السياسية، والتحالف الرباعي في صلبها، في سياسات إفقار الشعب وفرض الضرائب عليه.

قد لا تكون المقارنة في مكانها، فالاحتفال "الجنبلاطي" يتفوّق من باب التنظيم والحشد، شأنه شأن أيّ احتفالٍ حزبي يمكن أن يحصل في أيّ منطقةٍ من لبنان، ولكنّه في المقابل يكرّس واقعًا يوحي أنّ "تحالف السلطة"، بكلّ فروعها، هو الذي سينتصر في نهاية المطاف، لأنّ أحدًا ليس مستعدًا للانسحاب، ولو كان تكتيكيًا...