من المسلّم به أن مجلس النواب الحالي، لن ينتج قانوناً إنتخابياً عصرياً وعادلاً لأن من شأن قانون كهذا، هو إلغاء ذاتي لأحجام الكتل البرلمانية التي تشكّل المجلس حالياً. لكن إذا كان المجلس لا يُقرّ قانوناً إلا إذا كان على قياسه سينتج الطبقة السياسية ذاتها، فهل يُحجم الإصلاحيون عن خوض الإنتخابات؟.

أعتقد جازماً أنه مهما كان شكل القانون الإنتخابي الذي سيُنتجه المجلس المُمَدِّد لنفسه مرّتين، أو أُبقي على القانون الحالي المسمّى بقانون الستين، فإن شخصيات ووجوه معروفة مشهود لها بالإستقامة ونظافة الكفّ والتاريخ الناصع، ستخوض الإنتخابات النيابية المقبلة غير عابئة بالمحادل والتحالفات والإصطفافات، ومن هذه الوجوه العميد المتقاعد ​جورج نادر​ الذي لا يكلّ ولا يتعب في جولاته على القرى والبلدات في منطقته، يحاور الناس يناقشهم، يطرح ثقافة إنتخابية تختلف عن تلك التي ينتهجها المرشحون الذين إعتاد المواطنون العكاريون على رؤيتهم عند كل إستحقاق إنتخابي... "مش مجبورين نزعل من بعضنا بسبب نايب أو زعيم". نحن أهل وأبناء منطقة واحدة نعاني من الوجع ذاته، ونعيش حال الحرمان سوياً والإهمال الرسمي يشمل الجميع، فإذا كنتم على اقتناع بإداء الطبقة السياسية التي أساءت تمثيلكم فانتخبوها، لكن فيما بعد، لا تلوموا السلطة أو النائب أو الزعيم، عندها، لا تلوموا إلا انفسكم.

يجيب أحد رؤساء بلديات منطقة الجومة العكارية: "لا يا عميد، نحنا مش قطيع، نحنا بشر عنا كرامتنا مننتخب اللي مقتنعين فيه".

العسكريون المتقاعدون يتحلّقون حول عميدهم المرشح "هيدا بيّنا"، يقولونها وهم يحيطونه وعيونهم تشعّ فرحاً وزهواً:

"بدنا واحد متلو يحصّلنا حقوقنا. يروي أحد العسكريين من آل رمضان: بتصدّق يا استاذ، انا لولا العميد كانت بنتي ماتت"، يلتفت نادر صوب المتكلّم متفاجئاً: "أنا، ليش شو عملت لبنتك؟ وأيمتى"؟. ويشرح والد الطفلة عن نادر الّذي كان عقيدًا آنذاك عندما كان مساعداً لقائد فوج المغاوير، كيف أن إبنته تعرّضت لحروق بالغة في المنزل، وكيف رفضت إحدى المستشفيات إستقبالها لأن لها بذمّة الجيش مبالغ لم يسدّدها بعد. وكيف أن العقيد إتصل بإدارة المستشفى غاضباً وأصرّ على إستقبال الطفلة المصابة ومعالجتها.

بالحقيقة، لم أتذكّر هذه الحادثة، يقول العميد، لكن كيف يمكن أن أُعرض عن مساعدة أحد العسكريين في أوقات شدّته؟ أحس بأنهم عائلتي "وانا مجبور فيهن".

بلاد العسكر كما يسميها العميد تزخر بالطاقات الشبابية، وفي كل حلقة حوارية يعقدها مع الأهالي، يكوّن العسكريون المتقاعدون وعائلات العسكريين في الخدمة الفعلية أكثر من نصف الموجودين.

أم علي، زوجة احد الرتباء الذين خدموا بقيادة العميد في أحلك الظروف قالت في مجلس عام في بيت أحد أقربائها: "شوف يا عميد، جوزي ما بيحقّلو يحكي بالسياسة بس انا بدي أحكي وبدي جيّش الناس"، يجيبها العميد ممازحاً: أنت مندوبتنا في البلدة، ومنذ ذلك الحين تعتبر أم علي نفسها منخرطة في الماكينة الإنتخابية، تجول على زوجات وعائلات لعسكريين: شو بدنا غير هيك رجّال بيوقف حدّ رجالنا وجوزي بيخبّرني قديش بيحبّ العسكر والعسكر بيحبّوا".

مشاكل العكاريين لا تعدّ ولا تحصى، لكنّهم غير متطلّبين، فلاحون ومزارعون رسمت الأرض على جباههم الصدق، ولوّحت الشمس الوجوه السمراء التي تنطق بالصدق والبساطة: "أحبّهم لأنه منهم، إبن هذه الأرض الطيبة، ويعرف معاناتهم".

مواطنة سبعينية مكفوفة، جاء بها الى منزل العميد أحد العسكريين السابقين وهو ينشط حالياً في ماكينته الإنتخابية، طالبة تطويع إبنها في الجيش، فهي ربّة عائلة مؤلفة من عشرة اشخاص وعمل الوالد اليومي لا يكاد يكفي ثمناً للخبر "ما عندي حدا يساعدني يا سيدنا، الله يخليلك ولادك بدّي لبّس ابني" وبالمنطق العكاّري، عندما يتطوّع الشاب في الجيش يكون بكل بساطة قد "لَبِسَ"، أي أنه إرتدى البزّة العسكرية، فبدونها يكون عرياناً، لذلك تستخدم عبارة: "لبس أبني" أي أن إبنه إرتدى بزّة الجيش التي سترت عُريه". غضب العميد من الناشط الذي جاء بالمرأة المسنّة المكفوفة: "معقول تعذّبها من آخر الدني تا تجي تطلب مني؟ ليش انت ما بتعرف تحكيني ع التلفون تا نطوّع إبنا؟ مش عيب عليك"؟.

تطوّع الولد الفتيّ، و"لبس" بزّة الشرف وقام العميد بإحدى زياراته لبلدة المرأة المكفوفة، ولما علمت بأنه في رحاب البلدة، جاءت متّكئةً على يد أحد أبنائها: "وين العميد؟ خلّوني قرّب عليه"، فإقترب هو منها ولم يمدّ يده للمصافحة لعلمه بأنها "حجّة" أي أنها لا تضع يدها بيد رجل من غير عائلتها، لكن المرأة المكفوفة إقتربت منه وقالت: "بدي بوسك أنت ابني" وقبّلته فرحة كما لو أنه احد ابنائها.

"ابن عكار بيركض من كل قلبو تا يفوت ع الجيش، بينما غير مناطق بدّك تبسلو ايدو تا يفوت، كأنّو الجيش ما بيعنيلو". عبارة يرددها دائماً أحد النشطاء الذين يرافقون العميد في زياراته، فحلم الشباب العكاري اليافع، مشاركة من يكبره سنًّا من عائلته في الخدمة العسكرية، فالمواطن العكاري يتسقّط أخبار الجيش وتحرّكاته وإنتشار وحداته، ويعرف الكثير عن أمور الترقيات والتشكيلات والخدمة وسسلسة الرتب والرواتب، محتسباً الزيادات على الرواتب مخطّطاً وجهة الصرف لتلك الأموال. "فالجيش بيّنا وأّمنا وما إلنا غيرو ولولاه كانوا أغلب شبابنا قاعدين بالبيوت".

أحد المحامين الملمّين بالوضع الإنتخابي ويملك معرفة واسعة بمزاج الناس خصوصاً خلال فترات الإنتخابات، وكان في الدورات الماضية، يعمل ناشطاً في ماكينة إنتخابية لتيار سياسي، قال: "يحاولون دائماً إنتاج قانون إنتخاب على قياسهم، وأعتقد أنهم يراوغون كلهم، فالجميع راضٍ عن القانون الحالي المسمّى بالستّين، ويعتقدون أنه سيعيد إنتاج السلطة ذاتها، وأنا أجزم أنهم واهمون فـ"شو ما كان القانون، منفرجيهن".