عندما يكتب محللٌ سياسي أنّ كلاًّ من القادة المسيحيين ينتظر على ضفة النهر لتعبر جثث الخصوم، يتلقّى المعاتَبة. لكنّ هؤلاء الغارقين في الانتظار لسنوات، لو انتظروا لساعات قبل أن يعاتبوا، لتأكدوا أنهم فعلاً على ضفة النهر، بل على الضفة الغربية... والضفة الشرقية!

كان يمكن لقادة المسيحيين في لبنان أن يمرِّروا استحقاقاً واحداً، في تاريخهم، بلا "حرب إلغاء"، لكن تراثهم أبى عليهم ذلك. وتدور في الأوساط المسيحية أسئلة مجبولة بالذهول: كيف جرى ما جرى يوم الأربعاء؟

الدكتور سمير جعجع والعماد ميشال عون والرئيس أمين الجميّل يعلنون، كل من جانبه، أنهم على حق. وعندما يروي الرواية كل منهم، يُقنع بعضاً من الرأي العام المسيحي دون آخر.

"القوات" تقول: بعيداً عن التنظير، "إنتزعنا" من "المستقبل" والنائب وليد جنبلاط 54 نائباً مسيحياً بأصوات مسيحية. أليس هذا أفضل من المراهنة على 64 نائباً في "أورثوذكسي" لن يولد؟ فعلى الأقل، أصبح التمثيل 54 بدلاً من الـ35 الذين يأتي بهم قانون الـ60! ألَمْ نَعُد نرضى بالـ54؟!

ولكن، من قلب "14 آذار"، الكتائب لم ترحم الرفاق في "القوات": نحن الزوج المخدوع. لم يستشيرونا في شيء، ثم جاؤوا إلينا وقد زادوا على المتن شيعة الضاحية؟

أما العماد عون فذهب إلى الأقصى، وأصدر "فتوى" بـ"الجهاد" في سبيل "الحقوق المسيحية السليبة".

وبعيداً عن الأصوات الثلاثة، تتراكم الأسئلة:

- ما الخلفيات الحقيقية لخروج "القوات" من "الأرثوذكسي"؟ وهل أدركت احتمال إقراره في المجلس، فتهرَّبت من انعكاساته السياسية عليها وعلى فريق "14 آذار"؟ أي، هل إن "القوات" كانت ترفض "الأرثوذكسي"، لكنها تناور به لتمنع عون من المزايدة عليها، وتستخدمه ورقة لتحسين الشروط في القانون العتيد؟

- ما الموقف الحقيقي لبكركي، راعية التوافق الرباعي المسيحي؟ وهل كانت في أجواء صيغة "المختلط" خلال "طبخها"، بعدما أعلنت في وضوح تأييدها للمختلط؟

- لماذا أُبقيَ حزب الكتائب بعيداً من المشاورات داخل "14 آذار"، ما أدى إلى استفزازه؟ وما الحدّ الأدنى من عدد النواب "المسيحيين" الذين يرضى الحزب بتأمينهم للموافقة على قانون؟

- يقول عون إنه لا يتمسك بـ"الأرثوذكسي" حصراً، ويقبل بصيغة تؤمِّن أسبابه الموجبة. فأيّ صيغة للمختلط يقبل بها، أي كم نائباً منتخباً بأصوات مسيحية يجب أن تؤمِّن؟ وهل يقبل عون بقانون انتخاب لا يضمن هو وحلفاؤه مسبقاً تأمينه للغالبية النيابية التي يريدونها؟ وفي عبارة أخرى: هل يريد عون "الأرثوذكسي" لتمثيله المسيحي، أم للغالبية التي قد تأتي به رئيساً للجمهورية سنة 2014، وتوفّر لحلفائه الإمساك بالسلطة؟

المهم أنّ فريق "8 آذار" رمى كرة النار في حضن "14 آذار"، فركض المسيحيون وتبرعوا بتحويلها إلى أحضانهم.

إنه تماماً سيناريو 1988 - 1989: فراغ دستوري، مؤتمر طائف، فـ... حرب إلغاء. ومن المفيد أن لا سلاح في أيدي المسيحيين، لتبقى الحرب باردة هذه المرة!

وفيما أقطاب المسيحيين في لحظة العناق والخروق المدهشة (باسيل في معراب)، وفيما كان المشاهدون يعتقدون أن الأقطاب يتنافسون في البحث عن الصيغة الفضلى للتمثيل، إندلعت حرب الاتهامات بين مَن يريد تمثيلَ المسيحيين، ومَن يريد التمثيلَ عليهم، أو حتى مَن يريد التمثيلَ بهم!

الإلغاء خصوصية مسيحية. فالآخرون، في الطوائف الأخرى، يتفرّدون بساحاتهم. أما في حروبهم المذهبية مع الآخرين، فيحسبون "حساب الرجعة": مِن الطريق الجديدة وصيدا وحارتها وطرابلس وحاراتها، إلى جبهات القُصير والأرياف، إلى أقاليم العراق، حروبٌ يتوصّل أبطالُها في لحظة إلى تقاسم النفوذ. يرسمون خطوط تماس تتقاتل. لكن أياً منهم لا يطمح إلى إلغاء الآخر، ولا يستطيع. فالمساحات تتسع للجميع.

لكنّ قادة المسيحيّين في لبنان يتصارعون على ساحة واحدة صغيرة، بالأصالة عن أنفسهم، والوكالة عن حلفائهم.

إنهم يشبهون ركاب طائرة تنوء تحت الحمولة الزائدة، وكلٌ منهم يفتّش عن طريقة لرمي الآخر من النافذة: يا رب نفسي! وبديهي أن يصارع كل منهم لإثبات أنه الأَوْلى بالبقاء على قيد الحياة، لأنه الأفضل في القيادة.