إذا كان العالم يشهد حالياً نوعاً من الحرب الباردة العالمية بين ​روسيا​ الإتحادية من جهة والولايات المتحدة الأميركية و​أوروبا​ من جهة أخرى، تُترجم صراعات سياسية وإقتصادية في أكثر من مكان، وحتى أمنية كما يجري في ​أوكرانيا​، بهدف فرض السيطرة وحماية المصالح، فإنّ المنطقة تشهد حالياً نوعاً من الحرب الباردة الإقليمية بين السعودية المتحالفة مع دولة الإمارات والداعمة لمصر ضد تركيا المتحالفة مع قطر والداعمة للكثير من التيّارات الإسلامية المتشدّدة، وذلك لأسباب مرتبطة بصراع النفوذ والسيطرة وكذلك بصراع المرجعيّة الدينيّة في العالم الإسلامي السنّي. وعلى خط مواز، يدور صراع بخلفيّة مذهبيّة بين ​إيران​ التي تحاول تصدير عقائدها السياسية والدينيّة ومشاريعها الأمنيّة إلى دول الخليج والمنطقة، مستفيدة من وجود جماعات عدّة متحالفة معها، مثل الشيعة في كل من البحرين والسعودية والحوثيّين في اليمن والعلويّين في سوريا و"حزب الله" في لبنان، والسعودية التي تحاول قيادة تحالف مضاد مستفيدة من قوتها العسكرية والمالية، بدعم مالي من الإمارات، وبدعم عسكري من مصر بقيادتها الحالية، وفي ظلّ إمتلاكها علاقات قويّة مع الكثير من القيادات في الدول العربيّة. وبالعودة إلى تركيا، فهي تعيش حالياً نوعاً من الحلم العثماني لجهة التوسّع والسيطرة، ودعم جماعات إسلامية لتوظيفها في صراع النفوذ. وبالأمس القريب كان الصراع متفاقماً في مصر، بين جماعة "الإخوان المسلمين" المدعومين من قطر وتركيا ضدّ أطراف أخرى مدعومة من السعودية والإمارات، وقد إنتهت بفوز الفريق الثاني. واليوم، نشهد "سيناريو" مكرّراً لما حدث في مصر على الأرض الليبيّة، مع وصول "الكباش" إلى مرحلة الإنقسام التام والصراع المُسلّح.

ووسط هذه اللوحة المعقّدة للتحالفات والمصالح الإقليميّة والدوليّة، جاءت قضيّة توسّع سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي لتزيد الأمور تعقيداً، في إطار هذا الصراع القوي بامتداداته وخلفيّاته. ودخول الولايات المتحدة الأميركية المعركة ليس لعبة أو مجرّد محاولة لتسجيل الموقف، لأنّ القرار الذي إتخذه الرئيس باراك أوباما بشنّ غارات جويّة في العراق من دون تحديد سقف زمني لها، مع تحضير الأجواء لتدخّل مماثل في سوريا، جعل أميركا في مواجهة مباشرة مع تنظيم "الدولة الإسلامية". وهذا الأمر سيستتبع، بحسب العديد من المسؤولين السياسيّين والأمنيّين الأميركيّين، ردّات فعل على المصالح الأميركية ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في مختلف أنحاء العالم وداخل الأراضي الأميركية أيضاً، خاصة وأنّ الكثير من المنتمين إلى هذا التنظيم الإرهابي يحملون هويّات أوروبيّة وأميركية وكنديّة وغيرها، تخوّلهم التحرّك بسهولة عبر المعابر الحدودية، وأصبحوا يملكون خبرات قتالية وعسكرية عالية، بموازاة خضوعهم لعملية "غسل دماغ" وتعبئة عقائديّة خطيرة.

من هنا، يطالب الكثير من المسؤولين الأميركيّين إدارة واشنطن بخوض المعركة مع "داعش" وفق تحالف متين وقوي، وبشكل فيه الكثير من الجدّية والحزم. لكن مشكلة واشنطن تكمن في تعقيدات الموقف الغربي من الأزمة في سوريا، باعتبار أنّ الوضع في العراق مختلف تماماً. فعلى الرغم من عمليّة "شدّ الحبال" بين الغرب وإيران على الساحة العراقية، لا حرج في أن تقصف الطائرات الأميركية مواقع "داعش"، وأن تسلّح وتدعم وتنسّق عمليّاتها مع قوات "البشمركة" الكرديّة، أو مع "الجيش العراقي الحديث" الذي هو من تدريب غربي ومزوّد بأسلحة أميركية وغربيّة. وتوظيف "الخدمات العسكرية" الأميركية يمكن أن يُدرج على طاولة المفاوضات مع الإيرانيّين، وأن يُصرف تنازلات في الحكم في بغداد، وتوسيعاً لنفوذ الأكراد، وفي الملفّ النووي الإيراني وفي ملفّات أخرى. لكن التحرّك العسكري الأميركي في سوريا، هو أشدّ تعقيداً، لأنّ واشنطن التي تريد حالياً إضعاف تنظيم "الدولة الإسلامية" حتى لا يُهدّد حلفاءها في المنطقة ومصالحها المباشرة فيها أيضاً، لا ترغب بمنح النظام السوري دعماً مجانياً. من هنا، إنّ كل تحرّك عسكري أميركي سيكون مدروساً بدقّة، لتحديد الحسنات والسيئات، وسيكون أيضاً مسار تشاور مع الدول الحليفة ومسار تفاوض ومساومة مع الدول في موقع الخصم، وفي طليعتها إيران.

وبحسب أكثر من خبير عسكري غربي، إنّ المعركة مع تنظيم "الدولة الإسلامية" ستكون طويلة، لأنّ عدد مقاتلي التنظيم الإرهابي تجاوز حالياً عتبة 20,000 مقاتل سوري وعراقي، يضاف إليهم بضعة آلاف مقاتل أجنبي متمرّس سبق أن قاتلوا في الشيشان والبلقان والعراق وغيرها، علماً أنّ هذا الرقم في تزايد سريع نتيجة عمليّات الإنضمام الواسع إلى صفوف "داعش" والتي شهدها كل من العراق وسوريا خلال الأسابيع الماضية، والتي لا تزال متواصلة بوتيرة مرتفعة حتى تاريخه، وذلك بعد توسّع سيطرة التنظيم الإسلامي الميدانية، ونموّ قدراته المالية، علماً أنه منذ البداية نجح في إستقطاب الكثير من المقاتلين من تنظيمات إسلامية متشدّدة أخرى، عبر دفع رواتب أكثر إرتفاعاً لهم. كما أنّ تنظيم "داعش" يستفيد من عدد من الضبّاط الفارين من الجيش السوري وعدد من الضبّاط المسرّحين من الجيش العراقي (بعد حل الجيش الذي كان بقيادة الرئيس صدام حسين) الذين يضعون خطط التحرّك العسكري التي خوّلته حتى اليوم بالسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية، والمتصلة ببعضها عبر مساحات حدودية واسعة أيضاً. وتدير عمليّات التنظيم مجموعة من القيادات المحلّية التي تعمل وفق هرميّة واضحة لكن ضمن مجموعات محدودة العدد، وهي عبارة عن خلايا منفصلة بعضها عن بعض، من وحي عمل تنظيم "القاعدة" الإرهابي الذي كان يُطبّق مبدأ عمل "الخلايا المستقلّة" بهدف منع إنكشاف مجموعاته كلّها في حال إنكشاف إحداها وإلقاء القبض على أفرادها.

ووسط هذه اللوحة المعقّدة من المصالح المتضاربة ومن الصراعات السياسية والدينية والعسكرية، الأكيد أنّ المفاوضات المُحَدِّدَة للتوجهات المستقبليّة في أكثر من ملفّ ستكون بين الأقوياء، أي أميركية-إيرانية، مع كل ما لهاتين الدولتين من إمتدادات وتحالفات، ومع كل ما يدور من صراعات إقليمية حتى بين فريق الصفّ الواحد في بعض الأحيان.