بدأت أعباء وتكاليف الحرب العدوانية التي شنّها جيش الاحتلال «الإسرائيلي» على قطاع غزة على مدى 51 يوماً متواصلة تلقي بثقلها على كيان العدو الذي تكبّد خسائر اقتصادية ومالية كبيرة، فيما كان واضحاً أن القيادة العسكرية «الإسرائيلية» تضغط على المستوى السياسي «الإسرائيلي» لأجل الالتزام بتنفيذ بنود الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في القاهرة لضمان تحقيق الهدوء والحيلولة دون استئناف القتال.

وقد تجلّى ذلك في واقعتين بالغتي الدلالة، وهما:

أولاً: إقدام الحكومة «الإسرائيلية» على تقليص موازنة الوزارات بنسبة 2 مليار شيكل لتغطية نفقات وتكاليف الحرب، لكن ذلك لن يشمل وزارة الحرب. ما يعني أنّ الذي سيتأثر من خفض الموازنة هو الوزارات التي تعنى بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية، والتعليمية، والصحة، والمواصلات.

ثانياً: توصية قيادة الجيش «الاسرائيلي» إلى الحكومة «الإسرائيلية» بتخفيف الضغوط العسكرية على حركات المقاومة الفلسطينية لمنع استئناف القتال في نهاية شهر ايلول الجاري، والعمل على تنفيذ اتفاق القاهرة القاضي بفتح المعابر أمام حركة الأفراد والبضائع ومواد الإعمار، والتحويلات المالية، وتوسيع مدى الصيد في بحر غزة أن ذلك يشكل عاملاً مساعداً في «إبقاء الهدوء».

وفي التوقف أمام دلالات يمكن تسجيل التالي:

1ـ إنّ تقليص الموازنة «الإسرائيلية» يؤشر بشكل ملموس إلى مدى نجاح صورايخ المقاومة في استنزاف الاقتصاد الاسرائيلي عبر نقل الحرب إلى جبهته الداخلية شلّ الحركة فيها، ما يعني أنّ هذه الصواريخ ليست عبثية كما كان يصوّرها البعض بل لها فعالية كبيرة في المواجهة مع العدو، خصوصا إذا أحسن استخدامها مثلما حصل طوال أيام العدوان، على أنّ الأثر السلبي لتقليص الموازنة «الإسرائيلية» سوف يتمثل في إحداث مزيد من الانكماش الاقتصادي وزيادة حدة الأزمة الاجتماعية التي بدأت مع التقليصات المستمرة في التقديمات الاجتماعية على خلفية اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 والتي تأثر بها الاقتصاد «الإسرائيلي»، فيما تراجعت قدرة الولايات المتحدة على تعويض «إسرائيل» عن تكاليف الحروب التي تقوم بها بعد أن باتت تئنّ من أزمة الديون والعجز الكبير في موازنتها واضطرارها إلى اعتماد إجراءات تقشفية لمواجهة هذه الأزمة.

2ـ بات من الواضح أن القيادة العسكرية «الإسرائيلية» باتت خائفة من استئناف القتال، وأنها تريد التهدئة، وذلك لا يمكن تحقيقه من دون تنفيذ اتفاق القاهرة برفع الحصار عن قطاع غزة، والدلالة المهمة في ذلك هي أنّ القيادة «الإسرائيلية» ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من الحرص على عدم العودة إلى المواجهة مع المقاومة لولا معادلة الردع التي أوجدتها المقاومة خلال 51 يوماً من العدوان وصلت فيها «إسرائيل» إلى طريق مسدود في محاولاتها لسحق المقاومة وفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني.

3ـ انطلاقاُ مما تقدم فإنّ حديث البعض عن أنه ما من أحد يضمن أن تنفذ «إسرائيل» اتفاق القاهرة وأنها سوف تتهرّب من الالتزام به كما فعلت عام 2012، لا يرى المتغيّر الجديد الذي أحدثته المقاومة خلال العدوان، وشكل أحد أهمّ نتائج انتصار المقاومة، وهو أنّ الضمانة هذه المرة لا تتأتى من الوعود التي تقدمها الدول التي ثبت أنها لا تلزم إسرائيل بشيء، بل تتأتى من معادلة الردع التي أحدثتها المقاومة والتي تجعل قيادة الجيش «الإسرائيلي» تطلب من الحكومة «الإسرائيلية» العمل على عدم العودة إلى استئناف القتال، ما يعني أنّ القوة «الإسرائيلية» باتت قوة مرتدعة كما وصفها أحد المعلقين «الإسرائيليين» قبل أيام.

من هنا يبدو أنّ ورقة رئيس الحكومة «الإسرائيلية» التي سيعمل على اللعب بها هي محاولة استخدام العصا والجزرة في التعامل مع السلطة الفلسطينية لدفعها إلى إنهاء اتفاق المصالحة مع حركة حماس، وظهر ذلك من خلال العرض الذي قدمه نتنياهو للسلطة والقاضي باستعداده لاستئناف المفاوضات إذا ما قرّرت التخلّي عن المصالحة مع حماس.

فهل ينجح نتنياهو في تكتيكه الجديد، وماذا في جعبته ليقدّمه عملياً للسلطة، طالما أنه يواصل الاستيطان في الضفة، وقد صادر بالأمس أربعة آلاف دونم من الأراضي الفلسطينية، في حين يرفض أي تفاوض يرتكز إلى بحث انسحاب «إسرائيل» إلى حدود عام 1967، ويريد تهويد كامل مدينة القدس الشرقية وغور الأردن؟

الواضح أنّ عرض نتنياهو لا يحمل أيّ أفق سياسي وإنما مناورة لا أكثر ولا أقلّ هدفها محاولة تفجير التناقضات الفلسطينية.