لم يكن مستغرَباً أن ترفض تركيا التوقيع على البيان الختامي لمؤتمر جدّة لمكافحة الإرهاب، والتنصُّل من المشاركة في التحالف الدولي المفترَض، متذرّعة بخشيتها على مصير الرهائن الأتراك في القنصلية التركية بالموصل، والمحتجَزين لدى "داعش، لتتملَّص من مترتبات الحرب العالمية على الإرهاب، لكن التقارير التركية تفيد بأن بإمكان العراقي طارق الهاشمي المقيم في إسطنبول إقناع "داعش" بإخلاء سبيل الرهائن الأتراك، لذا تبدو قضية الرهائن، ومنذ اللحظة الأولى، سبيلاً للتعمية على التورُّط التركي في دعم "داعش" وتقويتها.

وهكذا، وبرغم الضغوط المستمرة عليها دولياً وداخلياً، لن تدخل تركيا في تحالف عريض يقضي على "داعش" لأسباب عديدة، منها:

أولاً: كان واضحاً منذ البداية محاولة الأتراك، ومعهم دول الخليج، الاستفادة من هجوم "داعش" المباغت والساحق على الموصل العراقية، فسوّقوا لما سمّوه "ثورة" عراقية، ثم ما لبثت دول الخليج، وأهمها السعودية، أن وعت لخطر هذا التنظيم على أمنها ووحدتها، وأدركت أنه يهددها أكثر مما يهدد الدول الأخرى، فسارعت إلى إعلان "داعش" تنظيماً إرهابياً، وحظره، لكن الأتراك استمروا في الحديث عن ظلم وتهميش تاريخيّيْن أدّيا إلى ظهور "داعش"، فظهر الأتراك كمن يحاول فتح باب للحوار مع "داعش"، أو مقاربته مقاربة عقلانية، أو إظهاره نتيجة طبيعية للصراع السُّني - الشيعي في المنطقة، وليس كمنظمة إرهابية تحاول اقتلاع المكونات العراقية وإبادتها.

ثانياً: انعقاد المؤتمر في السعودية يشير بما لا يقبل الشكّ أن الأميركيين اختاروا المملكة العربية السعودية لأن تكون الدولة السُّنية التي من المفترض أن تقود إقليمياً هذا التحالف ضد الإرهاب، وفي خضم الصراع على قيادة العالم السُّني، لن تقبل تركيا بأي حال من الأحوال بأن تسلّم القيادة لخصمها اللدود - الجناح "الوهابي"، بعدما ساهم في إسقاط مشروعها للهيمنة على المنطقة، من خلال إسقاط "الإخوان المسلمين" في مصر، والضغط على قطر لطرد قياداتهم.

ثالثاً: يحاول الأتراك الإعلان عن "حنقهم" على السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، خصوصاً في الموضوع السوري، فقد حاول الأتراك على مدى أكثر من سنوات ثلاث توريط الغربيين وحلف "الناتو" بالتدخل عسكرياً في سورية، ولم ينجحوا، إلى أن تمّ تسريب التسجيل الصوتي لاجتماعٍ لأركان من الحكومة التركية ورئيس الاستخبارات، وهم يخططون لعمل ما يتهمون فيه الجيش السوري بالعدوان، تمهيداً لتدخُّل عسكري تركي في الأراضي السورية.

رابعاً: حاول الأتراك ممارسة نفس السياسة التي استعملتها المملكة العربية السعودية سابقاً مع الأميركيين بعد إعلان التفاهم مع إيران حول ملفها النووي، أي سياسة "الحرد" لمحاولة دفع الولايات المتحدة للأخذ بمصالحهم بعين الإعتبار. فأردوغان - وخلال لقائه أوباما على هامش قمة الأطلسي - كان قد وضع شروطاً لما يريده مقابل الدخول في التحالف الدولي ضد الإرهاب، ومنها:

- طلب أردوغان أن تسلّم واشنطن المعارض التركي الداعية فتح الله غولين لأنقرة، أو أن تبعده خارج الأراضي الأميركية. واعتبر أردوغان هذه القضية "مسألة أمن قومي" لأنقرة، بل شبّه أردوغان غولين بالإرهابيين عندما قال لأوباما: "كما نحن نعيد إليكم المطلوبين من الإرهابيين فعليكم أن تفعلوا الشيء ذاته معنا"، كما نقلت الصحف التركية عن لقاء الرئيسيْن.

- اشترط أردوغان عدم تسليح الحكومة العراقية لمواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية - داعش"، معتبراً أن تقديم التحالف الدولي أسلحة لحكومة بغداد سيولّد نتائج سلبية، منها تسعير الصدام المذهبي، كما أنه سينعكس سلباً على عملية حل المشكلة الكردية في تركيا.

- طالب أردوغان أن تشمل استراتيجية مواجهة الإرهاب مهمة إسقاط النظام السوري أيضاً، محذراً من أن العمليات العسكرية التي ستقوم بها القوى الدولية ستقوّي نظام الرئيس بشار الأسد.

وبما أن المؤتمر في جدّة عُقد بدون تحقيق المطلبيْن الأوّليْن، فقد حاول الأتراك إرسال رسالة إلى الاميركيين بأنهم لن يقبلوا بتقديم أوراق كانوا قد استحصلوا عليها، مقابل لا شيء.

وهكذا، بات واضحاً أن الضغوط لن تُجدي نفعاً مع تركيا في تغيير سياستها بدعم الإرهاب، لكن السؤال يبقى: هل سيجرؤ الأتراك على الاستمرار في دعم "داعش" وتزويده بالذخائر التركية الصُّنع، وتسهيل مرور المقاتلين، والاستفادة من النفط المسروق من العراق وسورية، ولو بطريقة مموَّهة وغير علنية، بعدما فضحهم الإعلام الغربي؟ وفي حال تمّ ذلك، هل تتحول الحرب على "داعش" إلى حرب سُنية - سُنية بالوكالة على الأراضي العراقية؟