لم يلفت اللقاء ال​إيران​يّ-السعوديّ، والإيرانيّ-الأميركيّ نظر المتابعين، بقدر ما لفتهم كلام وزير الخارجية السعوديّ الأمير سعود الفيصل، الذي قال بوضوح تام، "من منطلق إدراك أهميّة وحساسيّة هذه الأزمة، والفرصة المتاحة لمواجهتها، نعتقد بأننا يمكننا من خلال اغتنام هذه الفرصة وتجنّب الأخطاء السابقة، تحقيق النجاح في مواجهة هذه الأزمة الحسّاسة جدًّا". يأتي هذا التصريح بعد اللقاء في حمأة التطورات وتراكمها من اليمن حيث سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء، في مواجهة سيطرة تنظيم "داعش" و"​جبهة النصرة​" على شمال حلب وطرد الأكراد منها، وتهجير المسيحيين من العراق وتهديد الشيعة ما بين سوريا والعراق، تحت ستار أن لا يمكن لأقليّة مذهبيّة أن تحكم أكثريّة.

ممّا لا شكّ فيه بأنّ أحداث اليمن سرّعت بهذا اللقاء، وبخاصّة، أنّ تداعياتها ستتراكم في الداخل السعوديّ. وإمارة البحرين غير معصومة عنها لكون الأكثريّة إذا أخذنا المنطق السنيّ المتطرّف في المقاربة تأبى أن تحكمها أكثريّة. لقد أدرك السعوديون بهذا المعنى، أنّ الخطر لم يعد محصورًا بـ"داعش" على الرغم من إقرار السعوديين به. بل توضّح في الارتجاج الذي أحدثته التطورات الدراماتيكيّة في اليمن في البنية الخليجيّة، وانعكاس ذلك على المدى العربيّ-المشرقيّ، وعلى الدور السعوديّ في هذا المدى بالمنظور السياسيّ والأمنيّ والإسلاميّ.

هذا الإدراك جاء بعض الشيء متأخّرًا. لعلّه خير أن تأتي الأمور متأخرة من أن لا تأتي أبدًا. فـ"داعش" داهمت حياة العرب بمكوناتهم، وباتت كالمقت في سمائهم والتعبير للراحل الكبير السيد هاني فحص، وأخرجتهم من بنيتهم المتوازنة، وأخلّت بالحدود بين معظم الدول التي تحترب فيها وتقتل وتدمّر... وهي حاصرت "عين العرب" الكرديّة بالكامل بغطاء تركيّ واضح وتسووي مع هذا التنظيم كان إطلاق الدبلوماسيين الأتراك هو الثمن.

هناك تهديد لجيوبوليتيك المشرق العربيّ، والهلال الخصيب، بعمقه الحصيف. والتهديد غير محصور في هذه البقعة فقط. ذلك أنّ التوق التركيّ-الأردوغانيّ، بالنيو-عثمانيّة جديدة باستثماره الأوراق الإسلامويّة غير مستساغ لدى السعوديين ولدى الأميركيين. مصالح السعوديين بهذا المعنى غير متلاقية مع الحراك التركيّ، وقد أدركوا في مسرى الأحداث أن الإخلال بالتركيبة المشرقيّة تهديد مباشر لأمن السعوديّة في الحيثيّة المذهبيّة الملتهبة، وانعكاس الالتهاب هذا على الدور الماليّ والنّفطيّ للمملكة.

هل أدرك الإيرانيون أن حجم الحراك السعوديّ بتبنيه الأوراق الإسلاموية في سوريا والعراق، بات أجوف؟ هل ثمة استشراف واع وواعد لهذا الارتجاج الذي جاء في اليمن على خلفيّة التبنّي السعوديّ لهذه الأوراق، بقراءة بدويّة انفعاليّة خالية من صفاء العقل، فعاد العقل بفعل هذا الارتجاج إلى الخطاب الهادئ والتفاعل مع إيران اللاعب القويّ في المدى المشرقيّ لإرساء تسوية تقضي على داعش وتعيد المنطقة إلى جوهرها المتوازن فتمنع الأتراك من التمدّد كثيرًا باستثمارهم لورقة داعش؟

غالب الظنّ أن العقل التحليليّ، يقود إلى استنتاج واضح كهذا، إسقاطًا للتطورات الدراماتيكية. ما بين سوريا والعراق واليمن، هذا الأمر عينه ينساب على اللقاء الأميركيّ-الإيرانيّ، إذ ثمّة رغبة مشتركة غير مرتبطة بالملفّ النوويّ حصرًا، وما يمكن أن ينجم عنه من تسويات ومقايضات. ومن بعض عناوين اللقاء وحاجته، أنّ الإيرانيين أقبلوا مع وزير الخارجيّة الذكيّ أحمد جواد ظريف، إلى اللقاء من باب توضيح أنّ ورقة "داعش" غير قابلة للاستثمار في المفهوم الدوليّ، فهي باتت عشوائية جوفاء، وتخلّ تاليًا بالأمن الكونيّ. أقبل وزير الخارجية الإيرانيّ جواد ظريف إلى نظيره الأميركيّ جون كيري، من بوابة القراءة الإيرانيّة-الروسيّة المشتركة للقاء جدّة وهما قد استبعدا منه، فخلا اللقاء من كماله الدوليّ-الإقليميّ، ممّا جعله حالة تحجيميّة-استثماريّة لهذا التنظيم بدلاً من أن يكون استئصالاً لهذا السرطان الذي بدأ يغتذي من خلايا الجسد، ويحدث اختلالاً في حركته وانعطافه. ويأتي اللقاء استمدادًا لما قاله بوتين ووزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف. فالروس على الرغم من غرقهم في الوحل الأوكرانيّ، لكنّهم قرأوا أنّ خطر "داعش" سيحرّك الانفصاليين من شيشان وأوزبكستان وكازاخستان، ويُحدِث حراكهم فجوات في المدى الروسي والانعطافة الروسية نحو المنطقة والعالم.

يملك الروس طاقة هائلة للخروج من أزمة أوكرانيا وإعادة التوازن إلى المدى المشرقيّ من البوابة الإيرانيّة-السوريّة والعراقية أيضًا. ذلك أن التوق الأردوغانيّ وهو على حدود روسيا للاستثمار حافز واضح للحراك الروسيّ-الإيرانيّ المشترك، كما هو حافز بدوره للتلاقي الأميركيّ الإيرانيّ والسعوديّ-الإيرانيّ، لا يهدف إلى تحجيم "داعش" بل يجب أن يؤدي إلى الاستئصال على الرغم من القراءة الأميركيّة التي في بنيتها انطلقت من تناقضٍ على مستوى أركان تلك الإدارة حول ضرورة التدخل العسكريّ البريّ أو الاكتفاء بالضربات الجويّة.

إنّ اللقاءَين ليسا وليدي الصدفة والحاجة بل هما حالة استقرائيّة واستشرافيّة لخطورة الإمعان بتهديد أمن معظم المكونات من الحجاز إلى الشام. فالعملية إمّا تكون استئصاليّة من الجذور بعيدًا عن استثمار غبيّ ومقيت، أو أنّها تبقي الأمن كلّه مهدّدًا ليس في هذه البقعة الحساسّة فقط ولكن في روسيا وأوروبا.

فالأتراك الذين رفضوا ضرب "داعش" مغالون في التوق، والشعور الأميركيّ بان مخدوشًا وبخاصّة بعد محاصرة هذا التنظيم بدعمٍ تركيّ لعين العرب بالكامل، فالأكراد في أربيل وأي مكان مقيمون في قلب الأمن الأميركيّ والمصلحة الأميركيّة، ويتلاقى الأميركيون حول هذا الملف مع الإيرانيين والسعوديين. كما إن اقتحام صنعاء من الحوثيين أدّى مؤدّاه بحسب القراءة الإيرانيّة لكي يدرك السعوديون أنّ نأي إيران ليس في مصلحتها، هنا يصحّ تفسير كلام سعود الفيصل بدعوته لتجنّب أخطاء الماضي. كما أنّ روسيا تحتاج بدورها للدخول من بوابة إيران والقضاء على "داعش" ليس من أجل سوريا فقط وهي حاجة كيانيّة لها، بل لأجل الضغط باتجاه كفّ يد الأميركيين عن الملفّ الأوكرانيّ.

هل للبنان حصة في تلك اللقاءات؟ إجابة بسيطة لا بدّ من إبدائها بأن لبنان ساحة احتراب وتسويات ككلّ الساحات المتنازع فيها وعليها. هذا جاء نتيجة لمشيئة اللاعبين الداخليين المنتظرين لمفاعيل اللقاء وتأسيسه لتسوية أخروية على حساب اللقاء الداخليّ. ومن بعض الأضواء أن اللقاءين المنفصلين لم يتطرقا بالتفصيل إلى الملفات الساخنة كانتخاب رئيس للجمهورية وما إلى ذلك. لكن وبطبيعة الأحوال فإنّ المحادثات وبحال استكمالها ووقوفها عند تلك العناوين والمفردات وما سينتج عنها من إفرازات على مستوى العملية على داعش، ستخلط الأوراق من جديد، وستكسر حدّة الاصطفاف المهيمن على لبنان بملفاته الأمنية والسياسيّة.

وبوضوح أكثر إن اللبنانيين مدعوون لاستشراف تلك الآفاق وإجراء المقتضى. بداءة البدء، أن تطلق يد الجيش في القضاء على الإرهاب بصورة جذرية، ويترك للحكومة اللبنانية أمر الحوار مع سوريا طبقًا لحاجة لبنان الأمنية، وانتخاب رئيس للجمهوريّة قويّ يؤسس لحوار جديّ ينطلق من تفاهم الأقوياء، من أجل ديمومة البقاء بأمن وسلام.