الارتياح الذي أبداه اللبنانيون بعد إجراءات الجيش والقوى الامنية في ​طرابلس​ والشمال نهاية الاسبوع المنصرم، لم يكن فقط بسبب الانجازات الميدانية المهمة التي حققها الجيش، ولم يكن بسبب ظهور عُزلة المسلحين المتطرّفين عن البيئة الطرابلسية الواسعة، بل كان مَبعث هذا الارتياح أيضاً شعور اللبنانيّين بأنّ ما جرى في طرابلس ليس معزولاً عن تطورات إقليمية مهمة في الاتجاه نفسه.

دخل الجيش طرابلس وثغور عكار وجرود الضنية من دون انضمام إلى هذا التحالف أو ذاك.

وإذا كان كثيرون يرون في ما حقّقه ​الجيش اللبناني​ هو التعبير الحقيقي عن قدرته، على رغم ضعف تسليحه ومحاصرته ماليّاً في الموازنة وسياسيّاً بالتراشق الاعلامي على يد بعض السياسيين، فإنّ المراقبين العالمين ببواطن الامور يرون أن الجيش كان مُستنداً، إضافة الى دعم الشعب اللبناني، الى مناخ إقليمي ودولي بات مُدركاً مخاطر هذه المجموعات المتطرّفة على المنطقة كلها، وكذلك على عواصم عالمية.

فالجيش اللبناني كان يضرب بسيف متعدّد الرؤوس، وقد نجح في جَمع تأييد عربي ودولي من أطراف متناقضة في كل شيء إلّا حين يأتي الأمر الى عمليات الجيش اللبناني ضد المجموعات المسلحة.

المراقبون يقرأون ما جرى في طرابلس على أنه يندرج في إطار ما واجَهه «تنظيم» داعش من صمود في عين عرب (كوباني)، ومن تبدّل في خطابات دولية واقليمية كانت قد أعلنت في وقت سابق استحالة صمود عين عرب، لتلتحق بعد ذلك بمشروع الدفاع عنها.

ولا يُنكر هؤلاء دور الحكومة السورية في توفير دعم لوجستي لمواطنيها الاكراد في مواجهة هجمات «داعش»، لا بل يعتبرون انّ فعالية القصف السوري لمواقع «داعش» كانت أكثر تأثيراً من قصف قوات التحالف الدولي، وهو ما يفسّر جانباً من الارتباك في الموقف التركي الذي لا يريد إضعاف «داعش»، ولا يستطيع أن يتحدى القرار الاميركي بانضمامه الى التحالف، وكذلك يخشى من أن تخسر المعارضة السورية ورقة الاكراد الذين كانوا في بداية الاحداث الأكثر نشاطاً في المسيرات السلمية والمطالبة بالاصلاح.

عملية الجيش اللبناني في طرابلس والشمال لا يمكن قراءتها ايضاً بعيداً من تحركات الجيش المصري للردّ على غير مجرزة تعرّض لها جنوده في شمال سيناء، بما فيها دعوة السكان الى إخلاء بعض المدن والبلدات الواقعة في تلك المنطقة حتى يتفرّغ لملاحقة المسلحين، موقعاً موقعاً، وبيتاً بيتاً، ونفقاً نفقاً.

كذلك، يعتقد المراقبون انّ ما جرى في طرابلس اللبنانية ليس بعيداً عمّا يجري في طرابلس الغرب الليبية ومحيطها. فرئيس الحكومة الليبية، الذي أخرجه المسلحون من العاصمة الى طبرق، يتحرّك بسرعة مدهشة بين القاهرة والخرطوم على رغم الطبيعة «الإخوانية» لحكومة الرئيس حسن البشير، إضافة الى تحركات شملت تونس والجزائر والدول الافريقية المعنية باستئصال الارهاب من ليبيا التي استبشَرت بالثورة فأوقعوها في الفوضى الدموية المدمّرة.

والأمر نفسه يمكن أن ينطبق على تونس التي قدّمت، عبر انتخاباتها، نموذجاً في الانتقال الديموقراطي السَلِس، حيث تخرج أحزاب من السلطة لتدخل أحزاب جديدة اليها، ما يشكّل رداً على مجموعات إرهابية تحاول أن تعبث بالارض التونسية إرهاباً وفساداً.

وفي هذا الاطار، سجّل المراقبون نقاطاً سياسية لمصلحة حركة «النهضة» التي قدّم رئيسها راشد الغنوشي نموذجاً مغايراً للنموذج «الاخواني» في مصر وفي دول أخرى، مُستوعباً الحقائق الساطعة التي أبرَزتها أحداث ما يسمّى «الربيع العربي» التي أكّدت انه ما من تيّار أو حزب أو حركة قادرة على الانفراد بالسلطة وممارسة سياسات الإقصاء والإبعاد والاجتثاث والاستئصال والتكفير والتخوين في حق مَن يختلف معها في الرأي والرؤية، وفي العقيدة والمنهج.

وبهذا المعنى استطاع الجيش اللبناني في طرابلس والشمال ألّا يكون مجرّد شريك في جُهد عربي واقليمي ودولي في مكافحة الارهاب، بل أن يكون في طليعة القادرين على مواجهة هذا الارهاب، ويشكّل خشبة خلاص لشعب ذاق مرارة تدمير دولته وتفكيك جيشه في مراحل سابقة.

ومن المفارقات اللافتة أنّ لبنان، وإن لم ينضوِ تحت لواء التحالف الدولي ضد «داعش» وأخواتها، كان دوره أفعَل من غيره في مكافحة الارهاب.

قيل لأرسطو يوماً: «عَرّف لنا الحركة»، فقام ومشى.

واليوم يمكن أن نقول: «قيل للجيش اللبناني، ومعه القوى الامنية، أن يواجه الارهاب»، فقام الجيش ودخل طرابلس وثغور عكار وجرود الضنية من دون انضمام الى هذا التحالف أو ذاك. فمكافحة الارهاب هي فِعل أكثر ممّا هي قول، ومَن يريد فعلاً أن يخلّص لبنان من آفة الارهاب عليه أن يدعم جيشه بتوفير سلاح له من أيّ مصدر كان بلا شروط، وعليه أيضاً أن يدعمه بالموقف الصادق، فإذا لم يستطع أن يمدحه فليَصمُت عن التشهير بمؤسسة تقدّم فلذات أكبادها شهداء في سبيل الوطن.