منذ الإعلان عن الهبة الإيرانية للجيش اللبناني، انهالت على وسائل الإعلام تصريحات بعض قوى 14 آذار، والتي كانت أقلها حدة تلك التي لم تمانع قبول الهبة إذا لم تكن مشروطة بثمن سياسي، دون أن يفصح أصحاب هذه التصريحات ماذا يمكن أن تطلبه دولة بحجم قارة من بلد كلبنان، مادام أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله أعلن مراراً وتكراراً: "نحن لا نمشي خلف إيران، بل هي التي تدعمنا وتمشي خلفنا في كل ما تراه المقاومة مناسباً لحماية لبنان"، في الوقت الذي تجاهر السعودية منذ "الطائف" بإدارة نصف لبنان سياسياً، وتشكّل حكومات وتموّل انتخابات وتستدعي من تشاء إلى بلاط الطاعة، وكان آخر المستدعين قائد "القوات" سمير جعجع والنائب سامي الجميل، وعسى أن يكون "الحج" مبروراً مادام "السعي" لن يكون مشكوراً!

فريق ثانٍ من جماعة 14 آذار أعلن رفضه للهبة الإيرانية من منطلق "الحفاظ على سيادة لبنان واستقلالية قراره"، فيما ذهب فريق ثالث إلى رفض تسليح جيش يأتمر بأوامر حزب الله!

وحيث إن هذه الجماعة رفضت بأسلوب مبطّن أو معلَن الهبة الإيرانية، فحق الفريق الآخر أن يتساءل عن سبب قبول الهبات الأميركية والسعودية، وحق هذا الفريق أيضاً أن يسأل عن مصير المليارات الثلاثة التي قدّمتها السعودية لشراء أسلحة فرنسية للجيش، وهي صفقة يتحمّل مسؤولية الإفصاح عن مصيرها الرئيس السابق ميشال سليمان بالتكافل والتضامن مع حلفائه في "14 آذار"، بالإضافة إلى هبة المليار التي حملها شخصياً الرئيس الحريري من السعودية للجيش، والتي تناقلت معظم وسائل الإعلام أن الغاية منها تحرير موقوف سعودي من "خمس نجوم" اعتقُل متورطاً في تمويل إرهابيي عرسال.

أسباب داخلية وأخرى خارجية تمنع قوى 14 آذار من تقبُّل فكرة الهبة الإيرانية؛ الأسباب الداخلية تبدأ من مناصرة بعض هذه القوى للتكفيريين، بهدف إحداث توازن داخلي مع حزب الله، بعد أن هزمهم الحزب حيثما تدخّلوا في سورية، مروراً برهان بعضهم على أن أية إمارة قد تعلَن في الشمال تمهّد لـ"الكانتون" الحلم في منطقة أخرى، لكن الحقد على حزب الله وحلفائه هو الذي تجمع عليه غالبية مكونات هذه القوى، لأن الجيش اللبناني بنظرها استنسابي في اختيار الأهداف، وقد كان وزير الداخلية واضحاً في خطابه المستغرَب في ذكرى استشهاد اللواء وسام الحسن، بأن طالب دون أن يلفظها حرفياً بتطبيق الـ6 و6 مكرر بصرف النظر عن الفريق الذي يؤازر الجيش والفريق الذي يناحر الجيش وينحر الوطن.

أما الأسباب الخارجية فهي سعودية بالدرجة الأولى؛ لمقارعة إيران في لبنان، بعد أن فشلت المقارعة في البحرين واليمن والعراق وسورية، وبعد أن أقلع الملف النووي الإيراني دون الحاجة إلى رضى السعودية ومن يدور في فلكها.

كما أن هناك أسباب أميركية - "إسرائيلية" بامتياز، وجماعة 14 آذار مدعوون لتفسير "الفيتو" الأميركي الذي سبق وصول وزير الدفاع سمير مقبل إلى طهران على بعض أنواع الأسلحة الممنوع تزويد الجيش اللبناني بها، فإذا كان "الفيتو" الأميركي على الدبابات والطائرات جاء من باب الحرص على أمن "إسرائيل"، فما هو سبب شموله كاسحات الألغام؟!

ربما المطلوب أن تبقى الألغام التي زرعها العدو في الجنوب مزروعة بين أهل الجنوب، في المناطق التي ما زالت بانتظار خرائط زرع الموت المؤجَّل، وربما المطلوب ألا تتقدّم كاسحات الألغام مشاة الجيش في سهول عكار أو في جرود عرسال.

لكن مفاجأة الأسبوع الماضي جاءت من طرابلس، ولم تكن بالحسبان لدى هذا الفريق، بحيث حقق الجيش اللبناني في طرابلس ويحقق الانتصارات ليس على مسلحين تكفيريين فحسب، بل على مشروع كان قيد الإعداد لإعلان طرابلس "إمارة".

سارع الرئيس الحريري لـ"نصرة" الجيش على ضوء انتصارات رآها الحريري واقعاً يجب أن يتأقلم معه، وبإرباك قارب الانفصام السياسي في الأداء أوعز إلى نوابه بوجوب التوقف عن التصريحات التي يمكن أن تمسّ بالجيش خلال عملية "تنظيف" طرابلس من الإرهابيين، ربما ليدخلها الحريري لاحقاً على نظافة، ويغدق الأموال على شعب مسكين، في محاولة لشراء الدم الذي أُهدر والمؤسسات التي دُمِّرت والبنى التحتية التي باتت تحت الركام في التبانة وسواها.

ما حققه الجيش اللبناني وما سيحققه أهّله عن جدارة لاستحقاق الهبة الإيرانية، وأهّل "14 آذار" لتقبُّل المتغيرات الميدانية الداخلية، كما سبق لهم وتقبّلوها في سورية، وما على "تيار المستقبل" ولواحقه من الآذاريين سوى الارتقاء إلى مستوى الوطن في السياسة، وتوجّهات دار الفتوى في الشؤون الوطنية الكبرى، وأن يبدأوا بالتراجع "التكتيكي" عن مواقفهم تجاه إيران وحزب الله وحلفاء المقاومة، لأن القافلة شاؤوا أم أبوا ستسير ضمن معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" إلى ما شاء الله للكيان اللبناني أن يستمر سيداً عزيزاً كريماً بهم أو بدونهم.