أطلّت مبادرة رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون في حديثه الأخير عشيّة عيد الاستقلال لتحفر كوّة في جدار الاستحقاق الرئاسيّ العقيم محاولة إبطال سماكة العقم بعمق قابل للنقاش الإيجابيّ والموضوعيّ. قد تبدو المبادرة التي أطلقها في شكلها خالية من الأطر الديمقراطيّة التي تبيح لكلّ من يشاء الترشّح للرئاسة التقدّم بترشيحه، وهو حقّ مكتسب للجميع. لكنّها انطلقت بواقعيّة شديدة مستندة بدورها إلى مجموعة تجاوزات قفزت فوق النظام الديمقراطيّ والانتخابيّ والبرلمانيّ بصلف شديد، بعدم إقرار قانون انتخابات يؤمّن المناصفة الفعليّة مع النسبيّة، والاتجاه نحو التمديد ضاربة بعرض الحائط المبدأ القائل بأنّ الشعب مصدر السلطات.

ما يجدر ذكره، بأنّ المبادرة بالتوظيف السياسيّ، هدفت إلى أمرين:

1- لبننة الاستحقاق فيعود للبنانيين أمر البتّ به والقرار فيه، بعدما أشيع غير مرّة، بأنّه رهينة التسويات ما بين إيران وأميركا. اللبننة تتجسّد في ماهيّتها الإيجابيّة بالديمقراطيّة، التي رذلت مبادؤها، وشوّه وجهها، وانتهكت حرمتها، بفعل التمديد للمجلس. وقد استغربت أوساط متابعة التسرّع والسرعة بالردّ على مبادرة العماد عون من بعض نواب "تيار المستقبل"، بالقول الجليّ: "إنّنا في نظام ديمقراطيّ، كيف نصادر حقوق الناس ونمنع أيّ شخص من الترشّح...؟" وتساءلت تلك الأوساط: ألم تصادر حقوق الناس بواسطة التمديد للمجلس، فلماذا لا نلبنن الاستحقاق في لحظة إقبالنا إلى عيد الاستقلال، وننزع تلك الصفة عن وطن غدا "بيتًا بمنازل كثيرة"، وهو عنوان لمؤلّف للدكتور كمال الصليبي؟

2- مسحنة الاستحقاق، ليس بالمعنى الضيّق للكلام. بل بالمعنى الكيانيّ الواسع للكلام، إعتقادًا من العماد عون بأن المسحنة يجب أن تعبّر عن رضى الجميع بأنّ مسيحيي لبنان يبقون خارج سياق العدد المكوّن الجوهريّ المؤسس للكيان اللبنانيّ، وتاليًا، هم مطلّ في ظلّ الأزمنة العجاف المؤلمة للمسيحيين العرب لهم بكل ما للكلمة من معنى. وهذا كلّه لكي يبقى الميثاق الوطنيّ حيًّا ومتحرّكًا بكلّ كيانيّته في الأنظومة السياسيّة، فهل بإمكان الميثاق أن ينمو خارج الحراك والوجود المسيحيّ؟

إنطلاقة المبادرة بهدفيها المزدوجين جالت في قراءة معمّقة للسياق السياسيّ المرافق للاستحقاق، وهي قراءة تختصّ بعلاقة المكوّنات وارتباط هذه العلاقة بالاستحقاقات الكبرى والأساسية في وجود الكيان اللبنانيّ وديمومته. مصدر سياسيّ مراقب اعتبر أنّ المسلمين بمعظمهم ومذاهبهم متفقون على التعاطي مع المسيحيين من أنهم كيان مهزوز وغير ثابت، وحالتهم تتطلّب أن يبقوا دائمي الاستيلاد، فيبقى القرار مصادرًا من سواهم. الاستحقاق الرئاسيّ بمهابته وحضوره، بتجلياته وتداعياته يحوي تلك الاعتبارات بل هو مؤسّس عليها بالخيار ما بين الرئيس القويّ الممثّل للوجدان المسيحيّ بغالبيته المطلقة، أو الرئيس التوافقيّ، المشوب بالضبابيّة والذي يبقى كخيال الصحراء. الرئيس القويّ بالتوصيف الدقيق هو الميثاقيّ والوفاقيّ، إذ ثمّة بون في التفسير والتوضيح ما بين الوفاقيّ والتوافقيّ. الرئيس الوفاقي ينطلق عموديًّا من قلب الميثاق، يعبّر عنه في التعاطي المتوازن مع الطوائف الأخرى بإطار من الطائفيّة المتوازنة، وهي المحافظة على الكيان بكونه جوهره. أمّا التوافقي فهو المنطلق أفقيًّا من حجم التسويات غير الكيانيّة، فلا يأبه لمكنونات الكيان ولتوازنها في جوفه، وتماهيها بالصراعات في هذا البلد وعليه. وقد دلّت تجربة الأحداث الأخيرة التي عشناها في لبنان، بأن الخلل أي عدم التوازن في العلاقة ما بين الطوائف يدفع لبنان نحو حروب متعددة ومختلفة.

العماد عون استنبط تلك الرؤى، وواجه خصومه بنقطتين أساسيّتين. الأولى حين قرّر النزول إلى المجلس شريطة حصر الترشيح والانتخابات بينه وبين رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​. والنقطة الثانية حين طلب تفسير المادة 24 من الدستور القائلة بالمناصفة مناطقيًّا وسياسيًّا.

لكنّ المسألة لا تقف عند تلك الحدود، إذ ثمّة ما هو جوهريّ في المبادرة التي أطلقها بحسب المصدر السياسيّ عينه، وهو أنّ العماد عون ميّز ما بين ترشيح استراتيجيّ يخصّه بحجمه ودوره، ويخصّ أيضًا من أيّدوه، حيث أظهروا متانة واضحة في عمق الترشيح واتجاهه ومعناه وخصوصيّته، وترشيح تكتيكيّ لم يكشفه جعجع تحديدًا بقدر ما كشف النائب ​وليد جنبلاط​ بإجابته على العماد عون تلك الصفة العائدة للترشيح، بالتماهي الواضح مع "تيار المستقبل" وبعض أفرقاء الرابع عشر من آذار. أهميّة الأمر وكما أشار المصدر عينه، أنّ العماد عون أعاد الاعتبار لموقع جعجع في فريق الرابع عشر من آذار، في وقت أثبت "تيار المستقبل" وفرقاؤه عدم جديّتهم لترشيحه من قبلهم. وعلى ما يبدو، فإنّ إعادة الاعتبار لجعجع لم ترُق لفريق الرابع عشر من آذار، كما بدورها لم ترق لـ"حزب الكتائب" حيث لا يزال رئيسه ​أمين الجميل​ يعتبر نفسه مرشّحًا توافقيًّا.

لقد أبدى العماد ميشال عون استعداده للنزول إلى المجلس للتنافس مع سمير جعجع، لتبدو أجواء المعركة الرئاسيّة كتلك التي حصلت بين المرشحين سليمان فرنجيّة والياس سركيس سنة 1971، وقد فاز الرئيس الراحل سليمان فرنجية بصوت واحد كنتيجة لها. عدم قبول العماد عون النزول قبل ذلك إلى المجلس ناتج من يقينه بأنّ ثمة ما هو أقرب إلى المناورة منه إلى التجسيد الفعليّ، بحسب مقرب من العماد. ومعركة سمير جعجع بحسب توصيف المرجع عينه، ليست بالمطلق مع مرشّح له حجمه التمثيليّ المسيحيّ في تكتّل الثامن من آذار، بقدر ما جعجع له ثقله بين مسيحيي الرابع عشر من آذار. معركته في الحقيقة هي مع الذين استهلكوا ترشيحه وناوروا به تحت الطاولة، ليستبدلوه بعد حين بمرشح توافقي سواء كان هنري حلو أو مرشّح آخر.

معلومات كثيرة أظهرت بأنّ ترشيح جعجع كان متجهًا نحو الاستبدال بعكس العماد عون الذي بقي على ترشيحه. وفي كلّ الأحوال إنّ الانتخابات تبقى محطة انتظار لتسوية ستحدث في لحظة واضحة تجوّف الاستحقاق من اللبننة.