لم يكن مؤيدو الفكر التكفيري والمنظمات الارهابية المجرمة في لبنان سوى حفنة قليلة من الاشخاص، محددون ومعروفون، ويمكن القول انهم كانوا تحت السيطرة. ولكن الاحداث التي شهدتها سوريا، واندلاع الحرب هناك اعطى الامور منحى آخر، في ظل بروز التيارات التكفيرية بشكل مسلح وتصاعد سطوة المنظمات الارهابية ومنها "داعش" و"النصرة"، فتضرر لبنان بفعل هذه الموجة من الحرب والاجرام.

وبالتالي، ما حصل في عرسال في آب الفائت وخطف العسكريين منذ ذلك الوقت، يمكن اعتبار سوريا فيه انها الداء، اذ بسبب ما حصل في سوريا عانينا في لبنان ما نعانيه. اكثر من خمسة اشهر مرّت على ملف العسكريين المخطوفين لنصل بعدها الى "نقطة الصفر"(1).

ولو كنا وصلنا الى هذه النقطة، لكان هذا الامر مقبولاً، لكننا فعلياً وصلنا الى ما دون الصفر لاننا خسرنا اربعة شهداء قتلهم الخاطفون بدم بارد. اليوم، تصاعد تحرك الاهالي وقرروا التوجه الى المسؤولين اللبنانيين لمعرفة حقيقة ما يحصل وهددوا بكشف المعرقلين(2). ولكن، هل ستعود الجولة على المسؤولين اللبنانيين بالفائدة العملية والفعلية للاهالي؟

لا يمكن لوم الاهالي لانهم اكتووا بنار القتل والتهديد، ولكن يمكن السؤال عن سبب عدم التأكد من صحة الانباء التي تحدثت عن مبادرة سورية في هذا المجال، قد تجعل من سوريا الدواء لهذه القضية(3). ولكن هذه المبادرة تبقى ناقصة للاسباب التالية:

1- لم تتخذ المبادرة الشكل الرسمي، واكتفى الجميع بالتطرق اليها من باب الانباء، ولكن اعلانها من قبل اللواء جميل السيّد كفيل باستشراف انه ليس هناك "دخان من دون نار"، وان ما قيل ليس كلاماً في الهواء.

2- اشترطت المبادرة ان يتم التعامل مع سوريا بشكل علني وان تتوجه الحكومة اللبنانية بطلب الى الحكومة السورية في هذا الخصوص. هذا الامر دونه عقبات كثيرة، لان السياسة الاقليمية والدولية تقتضي عدم التعامل العلني الرسمي بين لبنان وسوريا رغم وجود السفيرين في كلا البلدين وعدم قطع العلاقات الدبلوماسية، الا ان الحكومة اللبنانية اعلنت مراراً انها ستلتزم سياسة النأي بالنفس ولن تكون طرفًا، وبالتالي فهي لن تلبي هذا الشرط، اقلّه ليس في الوقت الحاضر.

3- برز حديث للمرة الاولى عن امكان قيام الجيش بعملية عسكرية لمحاولة تحرير العسكريين المخطوفين، وهو حلّ يبقى منطقياً وموضوعياً، الا ان الجيش اللبناني يفتقد للاسلحة والمعدات اللازمة للقيام بمثل هذه الخطوة، ناهيك عن معاناة حصوله على الضوء الاخضر السياسي لمثل هذه العملية، وهي مسألة بالغة التعقيد في ظل التخبط الذي تعاني منه الحكومة.

وحتى لو بات الجيش مستعداً لهذه الخطوة، فالتنسيق مع الجانب السوري ضروري ان من الناحية الاستخباراتية او من ناحية الدعم (وبالتحديد الجوي) للقوات السورية في استهداف الارهابيين.

4- من خلال هذه المبادرة، يكون النظام السوري قد دخل ايضاً لعبة "حرب الاعصاب" التي بدأتها المنظمات الارهابية ضد اللبنانيين والاهالي، فهي فتحت لهم باباً لاظهار نيتها في المساعدة، كما كان قيل سابقاً عن تجاوبها مع مطالب الخاطفين اطلاق سراح عدد من السجناء من السجون السورية. ووضع النظام السوري الكرة في ملعب الحكومة اللبنانية التي بات عليها التعامل مع معضلة جديدة في هذا الملف وهي العلاقة مع سوريا.

قد يكون شعار المرحلة المقبلة في ملف العسكريين المخطوفين "داوني بالتي كانت هي الداء"، وقد يملك المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم بعض الاوراق التي قد تؤدي الى حل هذه الازمة، لكن المؤكد انه سيكون لسوريا دور في اي حل. ومع تقدير الخطوة التي سيقوم بها اهالي المخطوفين على المسؤولين اللبنانيين، الا انها لن تفيدهم وستؤدي الى معالجة بحقن "المورفين" ليس الا...

(1)بتاريخ 15/12/2014، التقى وفد من اهالي العسكريين المخطوفين وزير الصحة وائل ابو فاعور الذي قال: "ان خلية الازمة لم تقرر وقف التفاوض ولم تعتبر ان العسكريين شهداء حرب، ونحن كحزب اشتراكي لا نقبل بهذا الامر وهو ليس مطروحا في اي مكان، ولكن للأسف المفاوضات عادت لنقطة الصفر".

(2)بتاريخ 16/12/2014 قال رئيس لجنة اهالي العسكريين المخطوفين حسين يوسف انه سيلتقي رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لانه اصبح الامل الاخير بالنسبة الى الاهالي.

وبتاريخ 17/12/2014 اعلن الاهالي تشكيل لجنة منهم للقيام بجولة على المسؤولين لكشف اقنعة المعرقلين، وطالبوا الحكومة بضم احد افراد اللجنة الى خلية الازمة.

(3)بتاريخ 16/12/2014، اعلن اللواء المتقاعد جميل السيد "ان السلطات السورية أبدت استعدادها لتأمين ممر آمن للمسلحين في جرود عرسال الى منطقة في داخل سوريا مقابل الإفراج عن العسكريين المخطوفين".

وفي التاريخ نفسه، افادت انباء في وسائل الاعلام اللبنانية انه تم، خلال لقاء شخصية لبنانية بالمبعوث الاممي ستيفان دي مستورا، اقتراح فكرة "أن تؤمن القوات السورية ممراً آمناً لنقل جميع المسلّحين من جرود القلمون وعرسال باتجاه مناطق الشّمال السوري، وضمان انتقالهم من دون تعرضّهم لأي أذى، مقابل إطلاق العسكريين وحتى إطلاق الحكومة اللبنانية عدداً من الموقوفين".