هو قدرُ مسيحيي الشرق، أن تكون كنيستاهما مقسومتين حتى على جراحهم. ليست الكنيسة بتقويميها في ألف خير طالما أن أبناءها من هذه الأرض ليسوا في ألف خير. صحيحٌ أن التقويم غربي هذا الأسبوع بيد أن الآلام مشرقية في شتى الحالات. آلامٌ أبطالها ذوو بشرة حنطية تشبه بشرة السيد المسيح الحقيقية لا تلك التي يسوّقها الهوليووديون عنه. آلامٌ أبطالها مسيحيون من لبنان وفلسطين وسورية والعراق ومصر.

هم أبناء هذا الشرق واليه يعودون. وإن كانت آلامهم متواصلة منذ عقودٍ فإن قمّة درب الجلجلة بلغوها هذا العام، في هذا الزمن، في زمن التكفير والتطرّف، في زمن الإعدام بدم باردٍ والخطف بدمٍ بارد والتفريغ بدمٍ باردٍ والسبي بدمٍ بارد وتدمير الحضارات بدمٍ بارد. في زمن كلُّ شيء يحدث بدمٍ بارد.

دروب جلجلة...

كثيرةٌ هي دروب الجلجلة في هذا الشرق. دروبٌ تفرّقها جغرافيا قضى عليها التطرّف وتجمعها الكأس المرة نفسها يجترعها أبناء الكنائس في لبنان وسورية وفلسطين والعراق ومصر. تجمعها آلامٌ لا تختلف مع اختلاف التقويمين. تجمعها مصائبُ ما جنتها هي على نفسها وإنما كانت ضحيّتها. كنائس الشرق هذا العام في حدادٍ كبير يتجاوز أسبوعيْ آلام. حداد بدأ منذ تهجير طلائع أبناء الأرض المقدّسة، منذ غادر أول راسم إشارة صليبٍ على وجهه أرض المهد التي هو الأحقّ فيها، ثمّ امتدّت الحكاية الى راسمي الإشارة نفسها في العراق بعد الغزو الأميركي، قبل أن يغدو التهجير رائجًا منذ سنوات بعد بروز الحركات المتطرّفة واستفادتها من البيئات الخصبة.

للبنان صليبه

للبنان صليبه. وإن لم يكن اضطهادًا فهو أسوأ من ذلك بالنسبة الى رأس الكنيسة المارونية. هو الشغور الذي يحمل تهجيرًا غير مباشر لصانعي النهضة وملوّني الكيان بأمجاد الاستقلالات. الآلام مزدوجة بالنسبة الى مسيحيي لبنان الذين يفتقدون رئيسهم منذ 10 أشهر ونيّف. لن يكون هناك رئيسٌ يشهد في كنيسة الصرح البطريركي على صلبٍ ونورٍ وقيامة. لن يتعب سيّد الصرح من ترداد الرسائل نفسها وهو الرابط بين ما يحصل في المنطقة من تفريغ وبين غياب رأس الدولة المسيحي الأوحد في عالم العرب. هكذا عجّت رسالة خميس الأسرار بغصّةٍ كبيرة. يعزّ على الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن تتساوى كلُّ الكراسي في قداس القيامة بلا واحدٍ يتقدّم ما عداه لأن رئيسًا يجلس عليه. يعزّ عليه أن يذهب أبناؤه “تحت الدعس” أو أن يُقال فيهم أقليّة تتسلّح في بعض القرى الحدودية خوفًا من تسلل الإرهاب الى أرضها وعُرضها... ومع ذلك يؤمن مسيحيو لبنان بأن القيامة آتية لا محال.

لسورية صليبُها

لسورية صليبُها. هنا الحكاية مختلفة لا بل جديدة على تلك الأرض التي كان مسيحيوها هانئين قبل انطلاق ما سُمِّي “بالثورة” التي سرعان ما غدت فوضى جنسيات. معلولا ما زالت شاهدة على ما فعلته الأيادي المخربة فيها العام الفائت وعلى راهباتها الأسيرات المُحررات، واليوم مجددًا لا يسلم بعضٌ من أبناء الأرض الأوائل من شرّ التطرّف. هم الآشوريون الذين تركوا الشمال السوري بالآلاف بعد خطف العشرات منهم على يد تنظيم الدولة الإسلامية. منهم من قصد لبنان بتسهيلاتٍ خاصة، ومنهم من قرر إيجاد سقفٍ أكثر أمانًا خارج هذا الشرق. لم يختبر هؤلاء التهجير من قبل ليحفظوا صلوات العودة، فما كانوا يرددونه في قداديسهم لإخوانهم في العراق يرددونه اليوم لأنفسهم ومعه صلوات خاصة لعودة المطرانين المخطوفين بولس يازجي ويوحنا ابراهيم. على عتبة يوم آلامهم كانت جبهة النصرة “تبشّر” بحكم الشريعة في إدلب. ومع ذلك، يؤمن مسيحيو سورية بأن القيامة آتية لا محال.

للعراق صليبُه

للعراق صليبُه. ليست آلام الحجر أقوى من آلام بني اللحم والدم. ليس دوي مطارق الإرهاب في متحف الموصل وفي مدينة نمرود الأثرية أقوى من أنينٍ بشري خافت. أخطر ما يعيشُه مسيحيو بلاد الرافدين أن التهجير بات ملازمًا لهم وإن أخذ عنهم الإيزيدون أخيرًا القليل من الحِمل. للمرة الأولى في تاريخ العراق تغدو الموصل بلا مسيحي واحد. هي فعلة “داعش” وحملتُها الشهيرة على جدران “كلّ صليبي”. حرفٌ واحدٌ اختصر مشهدية علم أبناء الصليب أنها ستطول: نون. تركوا كلّ شيءٍ رغم دعوات الصمود الكنسيّة. أرواحهم أغلى من أرضهم. هؤلاء قلائل ممن كانوا باقين أصلاً. نحو 25 ألفًا غادروا في غضون أيام ثاني أكبر مدن العراق التي تحتضن نحو 30 كنيسة يعود بعضها الى نحو 1500 سنة. غادروا تحت تهديد السيف. جلجلة هؤلاء طويلة ومع ذلك يصلون من حيثما هم للعودة. يرتضون ذلّ المخيمات والبيوتات الضيّقة على مهجّريها. يؤمن هؤلاء خير إيمان بأن القيامة آتية لا محال.

لفلسطين صليبُها

لفلسطين صليبُها. لا يكفي دخولها أمس الى المحكمة الجنائيّة الدولية للحديث عن قيامةٍ وشيكة في أرجائها. أجراس بيت لحم ما زالت تُقرَع، والنور ما زال يفيض من كنيسة القيامة، والمؤمنون ما زالوا يتقاطرون رغم كلّ المضايقات والإجراءات الإسرائيلية الصارمة. هم الأوائل في حمل الصليب الحقيقي وفي السير على الدرب الحقيقي. كلُّ شيءٍ حدث في أرضهم المنهوبة، هناك في زاويةٍ، في بقعة أرضٍ يرتفع ربما عليها اليوم بيتٌ لمستوطن. الزيتون ما زال في مكانه، تلوح أغصانه ذهابًا وجيئًا مع كلّ موسم صوم. يرتفع يومًا ويبكي ستةً. يرتفع للمسيح الذي لا يترك أرضه تمامًا كما دخلها على حماره ذات تاريخ، ويبكي ناسَه الذين لم يبقَ منهم إلا من تلمح العيون أوشحتهم تغطي شيب رؤوسهم. هؤلاء ما زالوا يؤمنون بأن قطرات دم الفادي التي غذّت أرضهم لا يقوى عليها محتلّ. هؤلاء يخبرون أن القيامة آتية لا محال.

لمصر صليبُها

لمصر صليبُها. ما لم يحدث في أرض الفراعنة حدث في جارتها ليبيا. “داعش” لم يعفِ الأقباط. آخر ما قاله 21 منهم: يا ربي يسوع. مبكرًا دخل مسيحيو مصر أسبوع آلامهم بتقويمه الشرقي، ومتأخرين سيخرجون منه رغم أن أسبوعًا زمنيًا يفصلهم عن القيامة. سجّل هؤلاء بدمائهم أبشع مجزرة في هذا القرن.21 قبطيًا قضوا قبل أيام من انطلاق زمن الآلام على شاطئ غريبٍ. لم يرحل ذووهم، فمنهم الملايين وتهجيرهم ليس حكاية ساعاتٍ أو أيام. صمدوا رغم حرق كنيسة من هنا وافتعال مَشكل مع مسيحي من هناك. لن يتركوا فقرهم إذ لا أملاك لهم على غرار نظرائهم العراقيين والسوريين والفلسطينيين. لا رزق يخافون عليه ولا ثروات يحجبون الشمس عنها. أمام هؤلاء أسبوع إضافي ليفيض النور. أمام كنيستهم القبطية أسبوعٌ إضافي لتعزّي مؤمنيها الخاسرين بلا جهدٍ بأن 21 منهم يعيشون القيامة الأحد المقبل. هؤلاء يشهدون على أن القيامة آتية لا محال.

عذراً من الكنيستين

كلُّ ذلك يحدث فعلاً والكنيستان تسيران دربيْ جلجلة منفصلين: الأول يبلغ ذروته غدًا والثاني بعد ثمانية أيام. لم تنجح كلُّ الجراح في توحيد وجعيْهما اللذين ما هما إلا وجعهما، ومع ذلك تبقى صلواتُهما واحدة، يبقى صليبُهما واحدًا، يبقى كفاحُهما واحدًا، يبقى مخلّصُهما واحدًا وتبقى أرضُهما واحدة... هذا الشرق الذي لا يتخم نزفًا. هذا الشرق الذي يبكي شجرُ زيتونه مرتين لمصلوبه المعلق على خشبة ومراتٍ لمصلوبيه المعلقين على مشانق التهجير. عذراً من الكنسيتين: التقويم الحالي غربي ولكن الآلام مشرقية في الأمس واليوم وغدًا.