غداً وأثناء زيارتنا لمتحف فضائي، قد نقرأ تحت صورة أثرية ما يلي: هذا كتاب. هذه صحيفة ورقية. هذه شاشة أرضية. تنقرض التلفزيونات بعدما إنقرضت الصحافة الورقية؟

لنبدأ من شاشات لبنان.

ينتابني الخوف فعلاً على مستقبل الشاشات اللبنانية الأرضية وبمعنى ما ينصبّ الخوف علىمستقبل هذا الفلتان الفريد والمميّز في لبنانباسم الحريةفي لبنان وهو بلد الطغيان؟ أوّلاً لأنّ صاحب المال والرأسمال هو الصانع والممول وهو المحرّك والفاتح والقافل لأية محطة أو شاشة يشاء. لماذا نقول ذلك؟ لأسباب ثلاثة أوّلهما أنّ أصحاب المحطات في لبنان يتطلّعون جدّياً الى فرض ضريبة على المواطنين وأصحاب اللواقط في عصر من الفضائيات العربية والعالمية العالية التقانة والمحلّقة في عصر ال Digital ، وثانيهما أنّ لا أحد من أصحاب الشاشات السبع الأرضية اللبنانية الخاصة يدفع ما يتوجّب عليهسنوياً كضريبة للدولة وتطبيقاً لقانون الإعلام المرئي والمسموع، وحفاظاً على ترخيصه بالبث وهي قيمة لا تتجاوز ال 100 مليون ليرة لبنانية سنوياً عن كلّ شاشة.لا أحد. إذن كيف ومن أين تعيش أو كيف تستمرّ هذه الشاشات؟ السلّة الإعلانية اللبنانية السنوية كلّها لم تتجاوز في ال2014 ال80 مليون دولار ذهب نصفهم الى التلفزيونات والنصف الآخر كانمن نصيب وسائل الإعلام الأخرى كلّها.أمّا السبب الثالث المرتبط بالأوّل فيعود الى أنّ المرجعيات السياسية والطائفية فتنت بالشاشات كظاهرة تتجاوز السلطات وتركّزها فاقتسموها ووزّعوها في ما بينهم وإمتلكوها كسلطة فائقة الضرورة مثلها مثل علم الحزبونشيده وجامعتهومعاهدهومدارسه وطائفته. كانوا ربّما يتّكأون على مخاصماتالآخرين الميسورين بتنوّعهم وثرواتهم ،لكنهم اليوم في ضيقفي زمن يراكم فيه العرب والمسلمون بشكلٍ عام ن تجارب وخبرات إعلامية مباشرة وملتزمة بتطلعاتهم ومواقفهم ومستقبلهم. إذن مستقبل الشاشات مأزوم والتهشيم المتبادل بين شاشات العرب وحماس إعلاميينا في لبنان تقولبملامح بدايات سقوط دولة الإعلام أو "الميديا ستايت"في لبنان إلاّ.....ما لست أدري. لكن ما قيمة الشاشات الأرضية في عصر الفضاء؟

لو نظرنا سنواتٍ الى الخلف لتذكّرنا سقوط الحبر كلّه في ضوء الشاشات. فقد قال ليزميلي الأستاذ الزائر في جامعة كندية مرموقة منذ سنوات:"مقالصغير في جريدة أو طلّة على الشاشة أهمّ من مئة محاضرة جامعية أو أطروحة دكتوراه". كانت كلمته خطيرةالوقع ، بعدما قضى ربع قرنٍ من حياته في أطروحته ذات الألف ومئتي صفحة والتي كتب في مقدّمتها بأنه الكاتب والباحث والقاريء الوحيد لأنّ لجنة الأساتذة الذين ناقشوه وحتّى الأستاذ المشرف منحوه لقب دكتور وهم قطعاً لم يقرأوا تلك الأطروحة كما قال. لم يسمع به أو بشهادته العليا سوى قلّةٍ من حوله مسكونين بالمنافسة الأكاديمية والوجوه القاتمة والمقالب المهنية، إن لم يكن بالإحباط والكثير من التبخيس ونتف النصوص ونبش تفاهاتها. بالمقابل، قال بأنّ العشرات بل المئات من أصدقائه الوهميين قد اتصلوا به بعد مقال مقتضب عن أطروحته نشر في صحيفة غربيّة مغمورةٍ وأسقطهعلى صفحته الشخصية في الفيس بوك ورفع المئات من أصدقائه هؤلاء إبهاماتهممعجبين به، أو معلّقين بكلمتين سريعتين، والمعلّقون، بالطبع، أقلّ بكثيرٍ جدّاً من المصفّقين بإصبع واحدة ب Likeاللايك. تلك ظاهرة عالمية غريبة صارت فيها حركة السبابة قارئاً أسرع من الكاتب بل من الضوء.

نعم وأنت تنشر نصاً على صفحتك الخاصة تنهال عليك مجموعة من ليكات العابرين الذين لم يتركوالعيونهم لحظة ولو لقراءة العنوان. تزحف الأجيال كلّها نحو كسل التعبير المطبق والعودة الى الإرتماء في لغة الإشارة أو الصمت القاتل أو الكلام المبروم في فم الأجيال. إذنما الجديد في القول بأنّ شاشات مثل الصحف في طريقها نحو الإنقراض؟

مكتبة رأس بيروت قبالة الجامعة الأميركية هزّت لبنان الثقافي أمس عندماتحوّلت إلى مطعم. كانت خطّ تماس بين اليسار واليمين، أو بين الجبارين في حربهما الباردة. التصق اسم الجامعة باسم المكتبة التي كنت ترى فيها طلاب العرب ومثقفيهم يتناولون لقاحات روائع المؤلفات التي كانت ترفع فوق رفوفها وكأنها في الجادة الخامسة. وبعدما سقط جدار برلين، قلنا: بقيت مكتبة رأس بيروت معاندة التاريخ... ولكنها سرعان ما هوت في تحديات طبقٍ نهمٍ من الفاست فود.أين هو كشك بيع الصحف العالمية الذي كان يشغل ساحة جامعة هارفرد في بوسطن وطلابها وأساتذتها منذ أكثر من نصف قرنٍ والمسمّى بـ«آوت أوف تاون نيوز؟شركة غانيت التي كانت تنشر 885 صحيفة في أميركا وحدها، بالإضافة إلى 24 محطة تلفزيونية، تسبح في الثقافة الضوئية، وهي كرجت على خطى «كريستشن ساينس مونيتور» الصحيفة اليومية الأميركية الكبرى التي تأسست منذ مئة عام وصارت ضوئية ونقرأ عن مبيع مئة مليون عنوان إلكتروني في نهاية عام 2016 بعد ظهور مبيعات عالية في عالم النشر الفرنسي Start-Up الذي جاء بعد عامين على ظهور الكتب الإلكترونية في أميركا. استفادت الصحافة، إذاً، قبل غيرهامن الكتابة الإلكترونية وألغت مجموعة من العادات البشرية الكتابية فصار كاتب المقال يقرأه ضوئياً وصاحب الصحيفة يتبعها ضوئياً أحياناً. وصرنا نشهد أفكاراً ترىبسقوط كلمة كتابة من المعاجم في معناها القديم الحافل بالمكبوتات والأساطير، ليصبح تعريفها الجديد في مادة كتاب: أنه مادة تقرأ على الشاشة الصلبة أو اللينة، وتنزلق في الكفّ أو في الجيب.

أنا خائف؟ لا. أنا سعيد بسقوط دولة الميديا ستيت.