وقع المحظور، وانتهى الأمر. سقطت الجلسة التشريعية في مهبّ رياح التجاذبات والمزايدات، التي أحاطت بها من كلّ حدبٍ وصوب. ذهبت محاولات رئيس المجلس النيابي نبيه بري وجهوده لتمريرها، ولو بالحدّ الأدنى، سُدًى، فالكتل المسيحية اتخذت قرارها، ولا رجوع عنه.

لا التلويح بورقة حلّ المجلس النيابي أتى أكله، ولا الضغط المعنوي من بوابة تسيير شؤون المواطنين فعل فِعله. "التطبيع مع الفراغ" مُحرَّمٌ بالنسبة لكُتَلٍ ساهمت عمليًا في تكريس الفراغ وإنتاجه، وهي وحدها قادرة على إنهائه، فيما لو توفّرت الإرادة الحقيقية والجدية لذلك.

لكنّ بري لم يستسلم. "انتفاضته" ضدّ "عدوى الفراغ" مستمرّة، تحت عنوان "كفى ندبًا". لكنّ المفارقة تكمن هنا، فهي تجاوزت الكتل المسيحية، لتصل إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، في "سابقةٍ" قد تكون الأولى من نوعها..

"الداء" و"الدواء"

"هناك من يجول في الخارج، كرؤساء طوائف وآخرين يندبون على الرئاسة، فليسعَوا لدى طائفتهم وشارعِهم للتوفيق بين الأطراف لتحقيق هذا الهدف وانتخاب الرئيس، بدل وضع المسؤوليات عند رئيس الحكومة ورئيس المجلس والمجلس". هي جملة بسيطة قالها بري، ونقلها زواره لـ"النشرة" صباح الاثنين، جملة بدا "المقصود" منها واضحًا، وإن لم يسمّه "الأستاذ"، عن قصد، بل عن سابق تصوّر وتصميم.

وإذا كانت أوساط بكركي ترفض التعليق إيجابًا أو سلبًا على ما صدر عن بري، وتعتبر نفسها غير معنيّة به، خصوصًا أنّ تحميل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة في تكريس الفراغ في رئاسة الجمهورية وباقي المؤسسات أمر ينطوي على "ظلمٍ كبيرٍ"، علمًا أنّ الرجل يسعى بكلّ طاقاته على إحداث "خرقٍ ما" على هذا الصعيد دون أن يجد "التجاوب المطلوب" من قبل المعنيين بالأمر أولاً وأخيرًا، فإنّ مصادر نيابية تقرّ بأنّ الراعي مقصود بجملة بري، وهو الذي يجول منذ فترةٍ بين العواصم، لافتاً الانتباه إلى مخاطر الفراغ وأضراره، مع تشديدها على أنّ بري لا يحمّله مسؤولية الفراغ، ولكنّه يدعوه إلى توظيف جهوده في الساحة الداخلية، حيث "الداء"، وحيث يفترض أن يكون "الدواء" أيضًا.

وتشرح المصادر أنّ المطلوب اليوم خطواتٌ عملية على الأرض تضع حدًا للتعطيل المتمادي، فـ"الندب" و"البكاء على الأطلال" لا يمكن أن ينتجا حلاً، كما أنّ الذهاب نحو "الفراغ الشامل" سيزيد الأمور سوءاً. وتشير إلى أنّ رئيس المجلس يراهن على "حكمة" و"وعي" البطريرك الراعي لإحداث هذا "الخرق" في الساحة المسيحية التي تبدو "الخاسر الأكبر" من كلّ "الفوضى الحاصلة"، في زمنٍ يعيش فيه المسيحيون معاناة حقيقية في الشرق، معاناة يفترض أن تكون "الحافز" الأكبر لهم لتحقيق التغيير، لا للجلوس جانبًا وانتظار أمر عملياتٍ خارجي لتنفيذه لا أكثر ولا أقلّ.

هل "يئس" بري؟

قرار رئيس المجلس النيابي بمخاطبة البطريرك الراعي مباشرة أتى بعدما "يئس" من الكتل المسيحية التي ضربت جهوده لـ"إحياء" عمل المجلس النيابي "المنكفئ" منذ التمديد لنفسه بـ"الضربة القاضية"، تحت عنوان "رفض التطبيع مع الفراغ"، وإن كانت لكلّ منها خلفياتها وحيثياتها التي دفعتها لمقاطعة الجلسة التشريعية المرتقبة، كما تقول المصادر، فـ"الكتائب" تنطلق من موقفٍ مبدئي يعتبر المجلس النيابي "هيئة انتخابية" حتى انتخاب رئيس، وترفض بالتالي المشاركة في أيّ جلسة لا تتوخّى انتخاب رئيسٍ للجمهورية، فيما تشترط "​القوات اللبنانية​" أن يتضمّن جدول أعمال أيّ جلسةٍ تشريعية تعتزم المشاركة فيها تحت عنوان "​تشريع الضرورة​" ملف الموازنة أو قانون الانتخاب بالحدّ الأدنى، ومثلها يفعل "التيار الوطني الحر" الذي لم يرَ في جدول الأعمال "مقوّمات" تشريع الضرورة ولا حتى ما "يغريه" من بنود على غرار قانون استعادة الجنسية أو سلسلة الرتب والرواتب.

برأي المصادر، فإنّ "الخلل" يكمن أولاً في "منطق" هذه الكتل، ذلك أنّ رفض "التطبيع مع الفراغ" لا يمكن أن يكون بالسماح بانتشار "عدوى الفراغ" لتشمل كلّ شيء، من رأس الدولة إلى كامل "جسمها"، ولا بتوقيف شؤون المواطنين وتعميم "الشلل" على كلّ الأمور، لأنّ في ذلك "انتحارًا سياسيًا"، فرفض "التطبيع مع الفراغ" يستوجب العمل لوضع حدّ لهذا الفراغ، بالعمل الجدّي والمسؤول لا بالشعارات الطنّانة الرنّانة، ولا بتبادل كرة المسؤولية كما هو حاصلٌ اليوم، فهذا يحمّل ذاك المسؤولية لأنه يعطّل النصاب، وذاك يحمّل الأول المسؤولية لأنه لا يريد شراكة حقيقية، وبين هذا وذاك الكلّ ينتظر "حلاً سحرياً" لا يتطلب منه أيّ "تنازل".

تذكّر المصادر بأنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري كان أول من دعا لـ"توافق" المسيحيين فيما بينهم على حلّ لأزمة ​الانتخابات الرئاسية​، على أن يسير الأفرقاء الآخرون بأيّ اسمٍ يقترحونه، وقد حصل اقتراحه على موافقة معظم الأطراف الداخلية، من "حزب الله" الذي يدعو كلّ "مفاوضيه" إلى النقاش به مع "حليفه المسيحي" العماد ميشال عون، وصولاً إلى "تيار المستقبل" الذي يقول، أقلّه في العَلَن، أنّ موافقته على ترشيح عون أو غيره لا تكفي، إذ إنّ مسيحيي "14 آذار" هم الأولى بالقبول. وتشير المصادر إلى أنّ الكتل المسيحية اكتفت بـ"التشكيك" بهذا المنطق، ولم تعمل حتى وفق المثل القائل "إلحق الكاذب على باب الدار"، حتى أنها وبدل أن "تتوافق" على الحلّ، "توافقت" على التعطيل من البوابة النيابية التشريعية.

النضال مستمرّ..

لا معركة شخصية بين بري والراعي إذاً. كلّ ما في الأمر أنّ رئيس المجلس النيابي قرّر أن "يشكو" الكتل المسيحية لمن يفترض به أن يكون "مرجعيتهم الروحية"، لعلّه يستطيع أن يضغط حيث عجز هو، ولعلّه يستطيع بحكمته ووعيه "فرض" الحلّ العملي والعقلاني، الذي ينهي كلّ الأزمات التي يمرّ بها الوطن بسبب فراغ الرئاسة.

"هم يتسببون بالامراض ونحن نداويها، هذه هي الحقيقة التي حان أوان البوح بها"، قال بري، مبرّرًا "انتفاضته"، التي لن يكلّ أو يملّ قبل أن تحقق أهدافها. ولكن، يبقى السؤال، أيّ حلّ يمكن أن يكون مُتاحًا، طالما أنّ "القادة المسيحيين" كلّهم مرشّحون رئاسيّون، ولا يزالون "يمنّون النفس" بأن يكون كرسيّ الرئاسة الشاغر من نصيبهم في نهاية المطاف؟!