الفاصلة المهمة التي ظهرت بين “عاصفة الحزم” و”إعادة الأمل” للتحالف العربي جديرة بالاهتمام والتوصيف واستغراق الأقلام والأفكار فيها بمقدار ما لطاولات الحوار والسياسة والدبلوماسية من وقع تاريخي يبعث على الارتياح. هي فاصلة بين الدمعة والابتسامة، ربّما، لكن محاذير الكتابة الموضوعية بينهما كبيرة، وخصوصاً إذ تتداخل الأمور وتتوسّع الفواصل التي غالباً ما تفرضها استراتيجيات السياسة والحوار وإمكاناته وآلياته بعد كل عمل عسكري.

سأخرج، إذاً، من هذه الفاصلة نحو الأمن القومي العربي عبر مقر الجامعة العربية بالقاهرة الذي استضاف الأربعاء22/4/2015 الاجتماع الأول لرؤساء الأركان العرب الذين مثّلوا 18 دولة عربية للبحث في تشكيل القوة العربية المشتركة التي لن تكون موجهة ضد أحد، ولكنها تهدف إلى محاربة الإرهاب وصيانة الأمن القومي العربي وحمايته. كان مقعد سوريا فارغاً بالطبع كما هو منذ ال 2012 ومثّل الجزائر واليمن وجزر القمر مندوبوها الدائمون في الجامعة.

برز القضاء على الإرهاب، واجتثاث جذوره بما يضمن الحفاظ على الاستقرار والأمن في المنطقة الهدف الشائع والملح في مؤتمر «الأمن القومي العربي» العسكري، لكنه برز بنبرة العزم على «خلق نظام إقليمي عربي متكامل قادر على ردع العدوان الخارجي والأخطار والتهديدات التي تواجهها الدول العربية لتتخطاها وتتجاوزها قبل أن تطاولها وصولاً إلى السلم والأمن الدوليين بالمفهوم الواسع..». يمكن التوقّف، في البيان الختامي، على المعاني والأبعاد التي أورثها أو حملها «تحالف الحزم» حيث يلمس المراقب قراراً لا تشاوراً وحسب في »معالجة الأزمات التي تنشب في المنطقة.. عن طريق عمليات التدخل السريع لقوة عربية مشتركة تمنع أساساً نشوب النزاعات وإدارتها، وتبتكر التسويات اللازمة لها ولو باستخدام هذه القوة حفاظاً على استقرار الدول العربية وسلامة أراضيها واستقلالها وسيادتها«. وأوصى المجتمعون، برئاسة الفريق محمود حجازي رئيس الأركان المصري، إن لم نقل أمروا بالإجراءات التنفيذية لتشكيل ودعوة فريق عربي رفيع المستوى يعمل، خلال أسابيع، تحت إشراف رؤساء أركان القوات المسلحة في الدول الأعضاء لدراسة جميع الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع قانونياً ومالياً وتنظيمياً لإنشاء سريع لهذه القوة العسكرية العربية المشتركة. وهنا سؤال: لماذا هو الاجتماع الأول؟ السؤال يستدرج ملاحظات مفيدة ربّما:

1- في 24 يوليو 2007 أي بعد مرور عام على حرب يوليو/تموز على لبنان، كنت في عداد لجنة عسكرية تشكّلت رسمياً من كبار الجنرالات في الجيش اللبناني برئاسة رئيس كليّة القيادة والأركان آنذاك العميد الركن علي سليمان. وضعنا معاً «ورقة لبنان الاسترشادية في الأمن القومي العربي» وأرسلت الى الجامعة العربية عبر مجلس الوزراء اللبناني. وظهر أن عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربيّة آنذاك طلب في 2007 من ملوك ورؤساء الدول العربية، وفي إطار تعديل ميثاق الجامعة، تقديم ورقة استراتيجية من كلّ دولة بهدف إنشاء مجلس للأمن القومي العربي. كان عمر الجامعة قد بلغ اثنين وستين عاماً على تأسيسها.

2- هناك من يربط بشكلٍ وثيق في الأوراق والدراسات السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية التي وضعناها وأعيد تحريرها، على مستوى لبنان، فيما أسميناه «بالورقة الاسترشادية»، جاء من يربط بين حرب «إسرائيل» على لبنان في ال 2006 وتداعياتها التي تعاظمت إلى حدود الانقسامات والالتباسات والمتناقضات والتحولات اللامنتهية على المستويات اللبنانية والإقليمية والدولية، ونظر إليها كمحطة فاصلة في موضوع المقاومة والصراعات المذهبية والطائفية، كما في إعادة رسم مستقبل لبنان والمنطقة أو مستقبل العرب.

3- اكتشفنا خلال البحث أنّ ميثاق جامعة الدول العربية 1944 الذي أنشئت الجامعة على أساسه في مارس/آذار لم يذكر كلمة “الأمن” بل تطرّق إلى “الضمان الجماعي” حيال أي عدوان يقع على أي دولة عضو في الجامعة، خارجية كانت أو عضواً بها. ولم تأت معاهدة الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية (1950) بعد نكبة فلسطين، على ذكر كلمة “الأمن”، بل طلبت من الدول الأعضاء توحيد الخطط والمساعي المشتركة في الحروب، وشكَّلت “مجلس الدفاع العربي المشترك” الذي يضمّ وزراء الدفاع والخارجية العرب وأنشئت معه اللجنة العسكرية الدائمة لتضمّ رؤساء أركان الجيوش العربية.

4- المرّة الأولى التي بدأ فيها مجلس الجامعة العربية مناقشة موضوع الأمن القومي العربي عملياً كان في سبتمبر/أيلول 1992 بهدف “تمكين الأمة العربية من الدفاع عن أمنها وحقوقها وصياغة استقلالها وسيادتها على أراضيها.. آخذة في الاعتبار الاحتياجات الأمنية الوطنية لكل دولة، والإمكانات المتاحة، والمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية التي تؤثر في الأمن القومي العربي..”. ونقرأ في هذا المجال تحليلات تربط بين ال 1992 تاريخ الطرح الأوّل للأمن القومي العربي وسقوط الشاه في ال 1971 وتقديم إيران الإسلامية نفسها كقوّة إقليمية تخوض حربها مع العراق لعقدٍ كامل، وتتوسّع في تطلعها عبر فلسطين والعراق وسوريا ولبنان الى ما هو أبعد من ذلك.

5- جاء في مقدمات الورقة الاسترشادية اللبنانية التي يتعذّر نشرها مسلّمات ربطت أمن الأفراد بأمن الوطن الذين ولدوا أو يقيمون فيه ضد أي أخطار خارجية أو داخلية مما يعرف ب”الأمن الوطني”، ليصل إلى تجمعات الدول يربطها أمن قومي أي اتفاق دول عدة في إطار واحد يخططون لمواجهة التهديدات، وصولاً إلى الأمن الدولي الذي تديره وترعاه المنظمات الدولية التابعة للجمعية العامة للأمم المتّحدة ومجلس الأمن الدولي وما يتفرّع عنهما من محاكم دولية ومؤسسات غارقة في معضلات الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وكلّها تصبّ في ظواهر الإرهاب والتطرف.

وبعد سبعة عقود على تأسيس الجامعة، يضع العرب خطّاً أحمر تحت أمنهم القومي العربي بعدما امتلأ زمانهم بالتحديات الخطرة في الشرق الأوسط، خاصة تلك المترتبة على العمليات التي تنفذها المنظمات الإرهابية، والرامية إلى تهديد كيان مفهوم الدول الوطنية الحديثة وترويع المجتمعات وترسيخ الفرقة والانقسام والتي تواجه الأمن القومي العربي الجماعي.. وهي متشابكة وتمتد عبر الحدود من دون عوائق.

6- قد تكون الفقرة التالية في بيان رؤساء أركان الجيوش العربية هي أهم ما يمكن أن نتمحّص بها للنظر الى المستقبل:"إنّ ما يدور في أي بلد عربي من اقتتال داخلي أو افتئات على السلطة الشرعية، أو استفحال للتنظيمات الإرهابية بممارستها اللاإنسانية، لا يمكن غض الطرف عنه، تحت وطأة الاعتقاد الخاطئ، أن تأثير هذه الآفات في اختلاف صنوفها ومسبباتها، لن يطال بقية الدول العربية".