لا تحجب استقالة ​المطران اسبيريدون خوري​ مطران زحلة الجريئة، بعد خدمته على رأس أبرشيّتها بسبب شيخوخته، وضع الكنيسة الأرثوذكسيّة بصورة عامّة، في إطارها الرّاهن. فالاستقالة قفزة لا يمكن لها أن تتجمّد أو تنحصر مع شخصيّة أحبّها الزحليون، أو مع استقالة لمطران بغداد سابقًا كوستا بابا استيفانو. بل يجب أن تأتي من ضمن سياق كامل ومتوازن خالٍ من العطب والهشاشة والثغرات، يؤمّن ديمومة الكنيسة حيّة نشيطة في هذه الأبرشيّة أو تلك، والمجمع بلقاء مطارنة برئاسة البطريرك لهم أن يتفقوا أو يختلفوا، وفي كلتا الحالتين يبقى المطارنة في وجودهم المجمعيّ أمناء على العقيدة والإيمان.

لا تنحصر مشكلة الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة فقط في مسألة تفصيليّة، ولا ترقى إلى الحلّ المنشود مع استقالة مطران من هنا أو هناك. بل جوهرها أنّ الإكليريكانيّة بما تعنيه من هيمنة كاملة ومطلقة غير قابلة للنقاش، قد مزّقت الإنجيل تمزيقًا كاملاً، متستّرة بحروفيّتها كحجاب واق وحام، في رفضها معنى مشاركة المؤمنين، أو ما اصطلح بتسميتهم "العوام"، وتلك تسمية تحتاج لتدقيق لأنها تشي باستعلاء مقيت. المشكلة ليست حديثة العهد على الإطلاق، بل هي قديمة، حين لم يطق بعض المطارنة مشاركة العلمانيين وتلك تسمية أخرى ممجوجة لأنّها تحوي في طياتها معنى الإلحاد المتفشيّ في مراحل لاحقة تفجرت في روسيا وفجرتها معها. وقد تبيّن بعد تدقيق كبير ويسير، بأنّ إلغاء القانون 55، بقانون 73، هدف بصورة واضحة إلى إلغاء معنى الشراكة، فأبطل التفسير الحقيقيّ، لمعنى الآية الواردة في سفر أعمال الرسل، "وكان كلّ شيء مشتركًا فيما بينهم" (أع 44:2). والتفسير يختصر بمعنى واحد الشراكة.

كلّ الأمم تبنى على مفهوم الشراكة، وحين يتمزّق هذا المفهوم ويبطل وجوده بمعناه ومكنونه الحقيقيّ، تتلاشى بصورة كليّة، وهذا ما يحصل في حقيقة الأمر في الأمم المشرقيّة في واقع الصراع فيها وعليها. ليست الكنيسة منفصلة عن العالم، بل هي من العالم وإن كانت منطوقة من فم الله، ومولودة من رحمه. والكنيسة بتسويغ بسيط، هي أمّة المسيح، والتعبير هذا ليس يهوديًّا أو إسلاميًّا فيما بعد، بل هو مسيحيّ استنادًا إلى قول بطرس الرسول: "شعب مقدّس أمّة مقدسة كهنوت ملوكيّ" (1بط 5:2). لم يظهر الإنجيل ولا كتابات الآباء فيما بعد أيّ نوع من التناقض بين فريقين منقسمين في الكنيسة بمعنى أنّه ليس من فصل بين طبقة كهنوتيّة وطبقة مدنيّة، بل هناك حالة تكامليّة وتشاركية جوهرها الإنجيل وقلبها يسوع المسيح الحيّ إلى الأبد، فنكون "رعيّة واحدة لراع واحد".

كيف يكون هذا في حقيقته، وثمّة من يبطل المشاركة ويصرّ على استمرار بطلانها؟ هل المؤسسات الأرثوذكسيّة تعني الأرثوذكسيّ غنيًّا كان أو فقيرًا، أو أنها باتت جزءًا من ملك شخصيّ، يترفّه فيها الأثرياء وينعمون بها فيما الفقراء وهم مذبح المسيح مرذولون ويزدرى بهم إلى النهاية؟ هل يحقّ لكلّ أرثوذكسيّ أن يطّلع على الواردات والصادرات لهذه المؤسسة أو تلك، أو أنها محصورة بفئة يعيّنها الأسقف فتتصرّف بفوقيّة كاملة خاضعة للمصالح والأهواء؟ وكيف تاليًا تتمّ إدارة الأبرشيّات الأنطاكيّة ما خلا أبرشيّة أميركا الشمالية خلال عهد المطران فيليب صليبا، والمكسيك مع المطران أنطونيوس شدراوي، وطرابلس خلال عهد المطران الراحل الياس قربان، أليس مؤلمًا هذا التسلّط القائم في الإدارة وغير المبنيّ على رؤى استراتيجيّة وازنة، وضوابط حافزة وناظمة، فتتلاشى الإدارة كما يحصل الآن في بعض الأبرشيّات مع شيخوخة أساقفتها، فيستفيد منها بعضهم بصورة كيفيّة تشوبها المصالح والأنانيّات والأحقاد الدفينة، فيتسلّط هذا البعض بسبب عدم قدرة الأسقف على المراقبة والمحاسبة، ولأنّ آفّة التسلّط المتفشيّة في هذه الأبرشيّة أو تلك، تؤدّي، تاليًا، إلى تلك النتائج العكسيّة والكارثيّة بحدّ ذاتها.

ما من شكّ على الإطلاق بأنّ البطريرك الهمّام يوحنا العاشر يازجي، متحسّس لهذه الخطورة ومتلمّس لها، وقد باح بها غير مرّة بصورة صريحة وواضحة، وهو يواجه آفّة التسلّط بتأكيده على قيمة المشاركة ومعناها ولأجل ذلك كان المؤتمر الأنطاكي العام المنعقد في مثل هذه السنة في البلمند ثمرة لتحقيق تلك المشاركة وتفعيلها بل وتجسيدها. وما يجب الاعتراف به، بأنّ البطريرك لا يزال يواجه بعض المتعنّتين والرافضين في المجمع لتجسيد تلك المشاركة وتفعيلها. البطريرك بهذا على حقّ، لأنّه آت من مشيئة الإنجيل وهو لا يمزّق ولا يقسّم. فإمّا أن تكون الكنيسة الأرثوذكسيّة شعب الله الحيّ، أو أنّها لا تكون.

وهنا لا بدّ من أن يُطرح السؤال التالي: "من هي الجهة الناظمة القادرة على حسم نوعيّة الخلافات المجمعيّة، وهي قائمة في بعض الرؤى ضمن المجمع المقدّس الأنطاكيّ؟ لو أبيحت ثقافة المشاركة بين "العوام" والإكليريكيين بعيدًا عن منطق الاستئثار لكانت الخيارات قد حسمت بصورة علميّة واضحة. الكنيسة الأرثوذكسيّة هي كنيسة المشاركة بوعي واتزان ومحبة هي رحم كلّ شيء.

لقد انتظر الأرثوذكس المشارقة، قرارات جريئة، وحدها استقالة المطران اسبيريدون المؤثرة كانت الخبر، وانتخاب مطران على بريطانيا بدوره كان الخبر الآخر والسار. لكنّ تأجيل بحث المشاركة بالتوصيات التي صدرت عن المؤتمر الأنطاكيّ يبقى تخديرًا للواقع وتأجيلاً للحسم المطلوب. يبقى أن بيان المجمع الأنطاكيّ المقدّس نسخة طبق الأصل عن بيان القمة الروحيّة في دمشق، فهو لم يحدّد الطرائق التي يسعى الأرثوذكس والمسيحيون في سوريا والديار المشرقيّة، لاعتمادها للبقاء، ولم يبِنْ دور الكنيسة في تثبيت الناس، سواء عن طريق الخدمات المطلوبة أو عن تسهيل علاقتهم بالمؤسسات الكنسية من تربويّة واستشفائيّة، فلا يبقون في غربة عنها، بل يظلّون جزءًا منها وهي جزء منهم. فالمؤسسات بحجمها ودورها وحدها تملك القدرة على تثبيت المسيحيين والأرثوذكس. خطورة الغربة تؤدّي إلى الانسلاخ، ودور الكنيسة كبير في التحفيز على البقاء.

التحديات كثيرة أمام الكنيسة والمطلوب أمر واحد، المشاركة والتفاعل، وإبطال المبدأ الإكليركانيّ المهيمن، مقابل عدم الغلوّ عند العوام بعلمانويّة شبيهة بدور الإكليركانيةّ، إبطال الوجهين المتصارعين هو جوهر التكامل في منطق المشاركة والتفاعل الخلاّق والخلوق، والمتأسّس على روح الإنجيل، حتى تظلّ الكنيسة المشرقيّة والأنطاكية في المشرق العربيّ، عروس الله الحلوة وأمته الناصعة والمضيئة والحيّة النابضة على الأرض ببهاء كبير ومجد عظيم.