يحاول الحراك الروسيّ في تجليّاته خلق ديناميّات جديدة بين المتخاصمين تحت ستار مكافحة تنظيم "داعش"، ويأتي من ضمن قراءة عميقة تحاول حياكة استراتيجية مواجهة وفقًا لمعلومات توفّرت لدى الدوائر الروسيّة، أظهرت خطورة ما تقوم به تلك المنظمات، في توجّه واحد، ظهرت تداعياته ومعالمه في يوم واحد وأسود بين تونس والكويت واليمن وعلى أبواب المملكة العربيّة السعوديّة من جديد. وقد انسابت الرؤى وتولّدت متسائلة عن معنى تلك الهجمات وتراكمها في يوم واحد. ويشي ذلك بأنّ المواجهات متجهة إلى حالة تصاعديّة على مستوى الإقليم الملتهب مع تنظيم يملك القدرات التوظيفيّة لنقل المعركة من ساحة إلى أخرى، ما بين سوريا والعراق واليمن.

يقف الروس أمام هذا المشهد حائرين. وتتجلّى الحيرة عندهم في إطار سياق جغرافيّ ضاغط من الحدود مع تركيّا إلى الحدود مع جمهوريّة الشيشان وأوزبكستان وكازاخستان، فضلاً عن تداعيات المواقف في أوكرانيا وقبلها جورجيا. وعلى الرغم من امتلاك الدبلوماسية الروسيّة ما يؤهلها لاستكمال دورها على ساحة الصراع في سوريا والمنطقة، فالدور يبقى محدودًا بتلك الألغام المحيطة به، والقابلة للانفجار في أيّ لحظة ممكنة.

تنتمي قراءة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين المشار إليها إلى هذه الرؤية، وتجلّت من خلال هواجسه لما يمكن أن تحدثه بعض الثغرات من فجوات إذا تمكن الإسلاميون التكفيريون من التسلل إلى أعماقها في تلك المواقع. فالذهاب بالمواجهة نحو ما هو أقسى وأقصى بخيارات متجزّئة سيكون مكلفًا بحال تمّ التسلل نحو ​روسيا​ من تلك البوابات المهتزّة، وعدم المواجهة بالمطلق عن طريق البوابة السوريّة سيجعل روسيا مكسورة الجناح، وبخاصّة في الاتجاه الواضح نحو توقيع الاتفاق الدوليّ-الإيراني، وروسيا شريكة في التأسيس له. هذا عينًا ما حدا بالرئيس الروسيّ لإطلاق تلك الدعوة لقيام حلف يجمع سوريا والسعودية وتركيا في مواجهة الإرهاب، والتي وصفها وزير الخارجيّة السوريّ وليد المعلّم بأنّها تحتاج إلى معجزة أقوى بكثير من معجزة توحيد روسيا الاتحاديّة. وتأخذ تلك الدعوة بعين الاعتبار المصالح الاقتصاديّة والنفطيّة بين روسيا وتركيا والسعوديّة من جهة في ظلّ العهد الجديد، متّكلة على مرونة واضحة وكثيرة يظهرها وليّ العهد السعوديّ محمد بن نايف، تجاه الدول اللاعبة في قلب الإقليم المشتعل.

ومن دون شكّ إنّ تلك الدعوة تحتاج إلى نوع من تصحيح وتصويب. ذلك أنّ الروس أدركوا في اصطفاف الأحداث بأنّ السعوديّة وتركيا رفضتا تشجيع القوى للوصول إلى حلّ سياسيّ في سوريا مع النظام، واشتدّ التوق عندهم غير مرّة عن طريق الميدان بالتحديد، للنيل من سوريا كوجود متكامل ومتحرّك من المشرق العربيّ إلى العالم، ولم ينحصر في التوجّه القائل فقط بإسقاط النظام. بمعنى أنّ إسقاط النظام ما كان هو الهدف بل هو الطريق لإسقاط سوريا وتبديل هويّتها، فكيف يمكن التّوليف بحسب المفهوم الروسيّ بين خيارات مضادّة ومتصادمة لتصير خيارًا واحدًا؟ ويستقرّ النقاش بالتساؤلات الموضوعيّة، في ظلّ معرفة الروس بأنّ المثلّث القطريّ-السعوديّ-التركيّ، وعلى الرغم من بعض التمايزات الأسلوبيّة المتأثرة بهدف كل أقنوم من هذا المثلّث منفصلاً عن الآخر، ومتصلاً بالخصوصيّة الذاتيّة والمذهبيّة، هو من سعى لتغذية تلك القوى التكفيريّة سواء جاءت التسمية بـ"القاعدة" أو "داعش" أو "​جبهة النصرة​"، وزرعها في المشرق العربيّ، بالتعاون مع الأميركيّين ضمن أهداف واضحة المعالم، وتمّ ذلك باحتضان إسرائيل الكبير لها، وهو احتضان خال من شروط ويصبّ في تحقيق فلسفتها الآيلة إلى تفتيت الشرق وحلّ القضيّة الفلسطينية خارج مداها.

ويبدو بأنّ العمليّة التوليفيّة التي تحاول القيادة الروسيّة التسويق لها تستند على معلومات محدّدة تفيد بأنّ تنظيم "داعش" يخطّط لمزيد من العمليّات الانتحاريّة، في أمكنة عديدة، وقد أبلغت بعض الجهات الروسيّة بأنّ موسكو قد تكون هدفًا، بالإضافة إلى عواصم أوروبيّة ستكون هدفًا آخر، يضاف ذلك إلى حاجة روسيا إلى الخليج وإلى تركيا في الوقت عينه. لا يعني ذلك بأنّ الروس متجهون إلى صفقة جديدة على حساب مواقفهم السياسيّة من الصراع، فالرئيس الروسيّ في الأساس كان واضحًا بتحديده الجوهريّ بأنّ الحلّ لا يتم من دون الرئيس السوري بشار الأسد. وهذا ما أبلغه الروس إلى الأميركيين. غير أنّ التساؤل المطروح بشدّة ما هي معايير العمليّة التي أطلقها بوتين أمام وزير الخارجيّة السوريّة وليد المعلّم؟

ثمّة معيار واحد بتصوّر مصدر دبلوماسيّ قد يقود إلى العمليّة التوليفيّة، وهو أن يلفظ السعوديون والأتراك من قاموسهم تلك التنظيمات التي أوجدوها وصدّروها بدلا من استثمارها في الصراع. المنطلق الأساسي أن يدرك هؤلاء بأنّ تنظيم "داعش" بدأ يشكل خطرًا كبيرًا على هذا المثلّث الذي أنتجه لحظة استهداف جامع في الفُطيم وآخر في الكويت، وهو بدوره عاد يستهدف تونس ومصر مع استهداف النائب العام المصري هشام بركات. وهذا كلّه يحتاج إلى قراءة نقديّة جذريّة تكون المقدّمة الفعليّة لعملية جراحية استئصاليّة لهؤلاء من بيئتهم. تشير بعض المصادر بأنّ ولي العهد محمد بن نايف بدأ بتلك القراءة وهو مدرك بأن دور السعوديّة ضعف بسبب اندراجها في الصراع اليمني وقبل ذلك السوريّ والعراقيّ، وبدأ يصير هزيلاً بسبب التهديدات التي يتلقاها السعوديون من تلك التنظيمات باستهداف المملكة. كما أن الأتراك تدحرجوا كثيرًا بسبب مواقف رئيسهم رجب طيب أردوغان من الصراع ويخشى من أن تكون تركيا بعد فشل سياسة هذا الأخير والانتكاسة التي أصيب فيها بالانتخابات وهزيمته من خلال مجموعته المقاتلة في تل أبيض ومحيطها، عرضة بدورها للعمليات الإرهابيّة، المنطقة بمعظمها معرّضة، ولذلك نقل الروس تخوفهم إلى السوريين واقتراحهم بالاتجاه إلى هذا التحالف.

لا يختلف السوريون مع الروس والمجتمع الدوليّ في القضاء على الإرهاب، وليست حربهم على المعارضة في سوريا ليقين الدولة بأنّ من يقود الحرب على الأرض ليست المعارضة بل هذا التنظيم المتوحّش مع جبهة النصرة وهم المقاتلون، والحلّ السياسيّ التي تطالب به موسكو لن يكون مع المعارضة السياسيّة المتمسرحة من باريس إلى أنقرة بلا جدوى وهي بدورها منقسمة بنيويًّا على ذاتها، فهي تعبّر سياسيًّا ولكن بلا قتال. والتنظيمات المقاتلة بدورها رافضة لتلك المعارضة ولافظة لها. ومع إقرار الدولة في سوريا بضرورة الحلّ السياسيّ على قاعدة جنيف 2، إلاّ أنّ المعايير السورية لا تشبه بهذه الدقّة المعايير الروسيّة، بتوصيفها للحلّ. فالدول المعنيّة لم تعترف بالدولة في سوريا كهيئة ناظمة وضامنة وتمثيليّة وتنفيذيّة، فعلى أي قاعدة سيتمّ التحالف وفقًا لما يطلبه بوتين؟

لقد أجاب وليد المعلّم: المطلوب معجزة فائقة. غير أنّ الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ على الأبواب، ويتوافق معظم المحللين بأن البوابة إلى الحلول هو هذا الاتفاق عينًا وقد بدأ يتجسّد تدريجيًّا وميدانيًّا من اليمن إلى تركيا بتراجع هذا المثلّث الضاغط، فهل يقبل هذا المثلّث بالتحاور مع سوريا على قاعدة الاعتراف بالدولة والحكومة؟

تشير المعلومات بأنّه متى استقرّ الاتفاق الإيرانيّ-الأميركيّ وتفاعل على الأرض بالمعنى الميدانيّ، حينئذ تحلّ المعجزة بحسب كلام المعلّم وتلج المنطقة باب التسوية من بعد الاتفاق المطلق على خطورة "داعش" والقضاء عليه بصورة مطلقة. وحتّى ذلك الحين سيبقى الحسم الميدانيّ على الأرض السوريّة سيد الموقف.