قالت بدويّة «إذا كنت في غير وطنك فلا تنس نصيبك من الذّل».

هذه الكلمة زاخرة بالمفارقات بين البداوة المسكونة بالرحيل الدائم والأوطان المسكونة بعدم الاستقرار الدائم، وأجادل، فيها الكثير من الأفكار القومية. هي كلمة ثريّة كنت وما زلت أتمسّك بها وأرفعها فوق الزوايا التي أتأمّل أو أقرأ أو أكتب فيها، تعني لي ولربّما لغيري الكثير في زمنٍ ينظر فيها العالم إلى أرض العرب والمسلمين بكونهم،بالرغم من قشرتهم الخارجيّة الجميلة والحضارية، لم يخرجوا من البداوة،وفي هذا ظلم سياسي ماحق وطمع اقتصادي هائل لا يتحمّله شعب ولا يقرّ به دين.

يتعاظم هذا الظلم حروباً، ويقوى بالمقابل مشحون هذه الكلمة القومية لسببين: أوّلهما وطأة الحروب والقلق العاصف ببلادنا، وثانيهما حجم المهاجرين والنازحين عن مواطن «الربيع العربي» الذين يعانون قطعاً العراء حيثما حلّوا، وهم يشتهون حتّى الشوادر والأزقّة في أرضهم وأوطانهم على القصور في عواصم الدنيا وتلالها. تلك مشاعر تدفعني إلى إزالة الغبار عن مقولتي (الأرض) حتّى ولو جاءت من صحارى، و(اللغة) ولو كانت قد ذوت في أهميّتها، ومن أهلها، في عصر العولمة الذي تتنافس فيه الدول العظمى وتتقاتل اقتصادياً بهدف الوصول إلى الأممية الجديدة التي أراها مستحيلة بالفعل.

لو سلكنا هذا الدرب العربي مجدّداً، وتناولنا نتفاً منه قد لا تكون وافرة وكافية للمجادلة، نجد في ملفّ العروبة أساساً، آراء وأفكاراً قد تتعارض. صحيح أنّ هذه الأفكار والتجارب الحزبيّة العربيّة قد تجد نفسها وتواريخها اليوم في زمن الصفر أي ما قبل تشكّل القوميات، لكنّ مقاربتها تبقى ضرورية لفهم الميدان المتخبّط الهابط فوق مساحة العرب من ناحية، ولتقدير تلك التجارب القومية ومستقبلها أو بعثها في احتدام الصراعات المذهبية من ناحية ثانية، وأخيراً للبحث عن المحصلات الكبرى القومية التي قد أجازف في النظر إليها وكأنّها تجارب ذات جذور دينية لم تستطع سوى تأجيل الصراع بين العرب المسلمين لبضعة عقود، أو أنّها كانت تدور بالمعنى النظري حول الكثير من قضايا المسلمين، فتداريهم وتلطّف عقائدهم وطقوسهم عبر الكثير من النظريات التي بقيت تعاني الاستحالة في ديار الدين الحنيف.

فقد رأى أنطون سعادة، الذي ربط بين البداوة والعروبة في القومية العربية، مثلاً، مرضاً نفسياً شوّه العقل والإدراك والمنطق، فذكّر المصابين بمرض العروبة النفسي، ووهم الوحدة العربية وهذيانها، وخيال العروبة، كما نعت العروبة والعقلية العروبية باللاّقومية والاتّكالية واللاتعميرية، وورد هذا الكلام في مقالته: «حاربنا العروبة الوهميّة لنقيم العروبة الواقعية» الواردة في سلسلة الأبحاث القومية والاجتماعية. ودعا إلى القومية السورية مندداً كذلك بالقومية اللبنانية الضيّقة، وبقيت فكرة العروبة لديه نوعاً من القناع الذي يعتمره دعاة الطائفية المسلمون، والداعي إلى العروبة هو طائفي مقنّع من دون ريب ليكتب في نشوء الأمم: «لولا علو هذه الجبال والأنهر المتدفّقة فيها، لكانت الصحراء عمّت البلاد ولكنّا تحوّلنا إلى عرب».

ولهذا الكلام مغالاة في منزلة الجغرافيا في حياة الأمم ونهضتها، أو ودور الأرض في توجيه حركات الشعوب، وهنا يجدر بنا، كشحاً لعناصر الاستحالة من درب النصوص في تطبيقها أن نطرح أسئلةً نقدية، كان هو نفسه قد طرحها، وأجاب عنها وعدّلها، أعني تلك القدرات التقنية الهائلة التي يتمتّع بها إنسان اليوم المعاصر في تسخير قوى الطبيعة كافة وتحويلها في تبادل الوعر بالخصوبة وبالعكس، كما حصل في بلاد الخليج على سبيل المثال. هل نجرح كبرياء الفكر وقوّته إن نحن أعدنا النظر في نصوص سعادة الجغرافيا كأساس متين في إعادة بناء القومية، وفي ضوء مفاهيم الجغرافيا العربيّة الجديدة وتحولاتها في قاموس المعاصرة؟

يمكننا ذلك قطعاً، وخصوصاً أنّ «سعادة» اللبناني قد ترك الباب مفتوحاً لنا عندما أشار إلى«أنّ الأرض تقدّم الممكنات لا الضروريات والحتميات وأنّ تأثير الطبيعة يكون كبيراً في الأقوام الابتدائية لكنّه يضعف كثيراً في الأقوام المتمدّنة». أليس أمراً واقعاً أن نرى الصحراء تزهو وتزهر كما أفضل الأرياف الخصبة في العالم، بعدما امتدّت يد التحديث التقنية إليها وحوّلتها جغرافيا خضراء مبرّدة وكاملة التجهيز والخضرة؟

قد أدفع التفكير النقدي إلى أعمق، فلا يعود التراب عنصراً مادياً أو مركّباً كيميائياً واحداً، لكنّ هويته تصبح متعددة الألوان والتفاعلات تندمج فيها عناصر التنوّع في الوحدة والوحدة في التنوّع، وتؤثّر في البشرية التي قد تكون واحدة بالمعنى القومي ومفاهيم الأوطان وبقع الانتماء إلى الأرض الملوّنة. فقد جمع الفنّان اللبناني عدنان حقّاني مثلاً مئة ونوعين من التراب اللبناني والعربي، وولّف منها سجادةً ترابية رائعة أسماها «مرايا التراب»، مستقرئاً مفهوماً جمالياً تعدّدياً لأحادية التراب والأرض وآثارهما النفسية والفلسفية والوجودية في قاطنيه، وعرض سجّادته الناطقة بوحدة التراب العربي في بيروت 19 مايو/أيار 2014.

ولا يمكن للأرض أن تستمرّ لتكون ألصق بشخصيّة الإنسان ومسراه من اللغة التي قلّل «سعادة» من شأنها معتبراً إيّاها «وسيلة من وسائل قيام المجتمع ولأسبابٍ من أسبابه». لكنها سبب ونتيجة وهي أداة التفكير والإبداع وحاملة التراث الأدبي والثقافي. إذا كان نظام «سعادة» الفكري قد استمرّ ثابتاً وصلباً في عقل القوميين الاجتماعيين وسلوكهم السياسي في بعض بلدان الهلال الخصيب، فإنّ فكر ميشيل عفلق الذي وصل إلى حكم سوريا والعراق قد خبا قبل سقوطه في العراق في ال 2003، وكبا أيضاً بعد تخريب سوريا منذ ال2011، وهو ما قد يحوّل ما سمّي بالهلال الخصيب إلى هلال يتعاظم فيه الحس المذهبي وتتقاتل فوقه فصائل المسلمين المتنوّعة من أفغانستان إلى المغرب صعوداً نحو مسلمي الغرب في أوروبا وبريطانيا وأمريكا. وعفلق رأى في الإسلام، كما نعرف، جوهر الدعوة القومية العربيّة وركنها الأساسي، فكتب أنّ«العرب ينفردون، دون سائر الأمم، بهذه الخاصية. إنّ يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية أو بالأحرى، كانت هذه الرسالة مفصحةً عن تلك اليقظة القومية. وما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والإسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الإسلام، فلا مجال إذاً للخوف من أن يشتطّ العرب في قوميتهم... وسوف يعرف المسيحيون العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامّة، ويسترجعون طبعهم الأصيل أنّ الإسلام لهم ثقافة قومية، يجب أن يتشبّعوا بها حتّى يفهموها ويحبّوها، فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أغلى شيءٍ في عروبتهم».

إلى أين من هنا؟

إلى الدعوة نحو التمسّك بقيم الأديان التي نبعت من أرضنا وصيانتها من مدّعيها والمستثمرين فيها، والى التمسّك بشأن اللغة العربيّة التي تتشوّه في عصور الشاشات،وفي الوقت نفسه التمرّس أيضاً بلغات الدول العظمى، كي نحسن محاورتها واستخدام دولها وتقنياتها بهدف كسر نتوءات الجغرافيا وإنهاضها كي نبقى ونتجدّد عرباً محدثين.