يبدو المنظمون للاعتصامات في الساحات متخبطين في إعداد طبخة تشارف على الاحتراق، لكثرة خلافاتهم، ليس بسبب التناقض في الأهداف والمطالب فحسب، بل في مشكلة القيادة الواحدة والموحِّدة للحراك الشعبي، الذي يبدو وكأنه يتحرك وفق بوصلات متناقضة للمنظمين وأذواق وأهواء "الطباخين".

ومن المفارقات الغريبة، أن تنقل كاميرات التلفزة في نفس الوقت، ومن الساحة نفسها، مقابلات مع نقابيين ومناضلين مخضرمين، يتحدثون عن أهمية الثورة الشعبية في إحداث التغيير، وفي صورة أخرى يظهر أحد المشاركين وهو يحمل إعلاناً عن "سيارة سيتروين موديل 2006 للبيع مع أرقام الهاتف"، ومشارك آخر يرفع يافطة "بدنا بحر ببعلبك"!

ونتيجة الاحتقان الحاصل في الشارع، قد يكون الرئيس بري وجد نفسه مجبَراً بعد غياب سنتين عن الحضور شخصياً، لإلقاء كلمة بين جماهير "أمل" بمناسبة ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر، وأن يحمل في جعبته "مبادرة حوارية" لرؤساء الكتل النيابية، وحدد لها نقاط البحث، ومنها انتخابات الرئاسة، وعمل مجلسي النواب والوزراء، وقانونا الانتخاب ومنح الجنسية، وقد لاقت هذه المبادرة استحسان معظم القيادات المعنية، سواء عبر تغريداتهم على "تويتر" أو عبر التصريحات، وفعلاً، حدد موعد انعقاد طاولة الحوار في التاسع من الجاري.

وإذا كان الرئيس بري يدعو الآخرين إلى تفعيل عمل مجلس النواب من أجل "تشريع الضرورة"، فمن المؤسف هذا الشلل في عمل المجلس النيابي منذ سنوات، ولسنا نحمّل طرفاً معيّناً مسؤولية التعطيل، لكننا نذكّر أنه جاء في تقرير المنظمة العالمية للشفافية منذ نحو سنة، أن مجلس النواب اللبناني عُقد خلال العام 2012 أربع ساعات تشريع، مقابل 800 ساعة للجمعية الوطنية الفرنسية/ البرلمان، ونترك لأهل الاختصاص تقدير كلفة رواتب مجلس نواب معطّل، وبعض أعضائه في عطلة مفتوحة خارج البلاد، وكم مليار ليرة لبنانية هي كلفة ساعة التشريع على الشعب اللبناني لمجلس اجتمع فقط أربع ساعات خلال سنة.

قد يكون قدَر الرئيس بري أنه الوحيد الباقي في الساحة ضمن ثوابت الرئاسات، ولا نحمّله كل المسؤولية، لكن مشكلته أنه مطلوب منه أن يلعب دوره كعازف منفرد، نتيجة الألقاب التي أغدقها عليه الأطراف المتخاصمون؛ من "المايسترو" إلى "صمام الأمان" إلى "ضامن الاستقرار" إلى "راعي الحوارات"، وعلى هذا الأساس وجد الرجل نفسه "محشوراً" في كل هذه الألقاب التي باتت أعباءً على كتفيه، وبات يعلن عن إدارة المحركات وإطفائها وفق رهاناته على دور إقليمي ما، وهو السبّاق في الرهان على الإقليم منذ أيام "السين - سين"، وما زال اللبنانيون ينتظرون مع الرئيس بري تحسّن العلاقات بين "السين الأولى" وإيران، خصوصاً بعد توقيع الاتفاق النووي، وينتظرون أيضاً ما ستؤول إليه الأوضاع في "السين الثانية"، لأن لبنان ما اعتاد العيش مستقلاً عنها في السراء والضراء بحكم الجيرة.

وإذا كان الرئيس بري، وتحت ذريعة عدم إحداث فتنة سُنية - شيعية، وما سيترتب من نتائج عن انتخابات نيابية لن تأتي لمصلحة الرئيس الحريري و"تيار المستقبل" لا في الماضي ولا في المستقبل، قد مدّد للمجلس مرتين عامي 2013 و2014، بما مجموعه دورة كاملة من أربع سنوات، فإن مشكلة اللبنانيين أن كل قنوات التواصل التي يحاول استخدامها مع كافة الأطراف عبر لقاءات الأربعاء النيابية لم تجد نفعاً، ولم تنتج طبخة توافقية، نتيجة الانقسامات الحادة بين الأطراف، حتى كفر الناس بـ"الطبخات" ونزلوا إلى الشارع.

الدعوة الحوارية من الرئيس بري مرحَّب بها، وليتها حصلت قبل اهتزاز الشارع، رغم التباعد بين نقاط الحوار المزمع بحثها، وبين مطالب الشارع على تنوّعها وتناقضاتها، لأجل ذلك كان من الأفضل الدعوة إلى الحوار لبحث عمل مجلسي النواب والوزراء قبل مطالبة الناس باستقالة أعضاء هذين المجلسين.

ختاماً، إن الدليل على الفجوة بين الدولة والمواطن اللبناني، ليس فقط في أن هذه الدولة تأتي دائماً متأخرة، بل أنها لا ترغب سماع نبض الشارع، وأنها مشلولة عن النبض، وخير مثال على هذا الشلل بكافة مستوياته ما يحصل مع وزير البيئة محمد المشنوق، ليس لأنه مطالب جماهيرياً بالاستقالة نتيجة تحميله مسؤولية فشل معالجة ملف النفايات، بل لأنه سار في مناقصات حتى خواتيمها وجاء مجلس الوزراء وألغى كل ما ترتب عنها، وأي وزير في دولة غربية يلجأ فوراً إلى الاستقالة متى سقطت خياراته في الحكومة، بينما المشنوق اكتفى بمزيد من التشبث بكرسيه والتهرب من المسؤولية عبر طلب إعفائه من اللجنة المختصة ببحث ملف النفايات، وتم تعيين الوزير شهيب مكانه!

وبالغ وزير البيئة محمد المشنوق في تشبّثه بالكرسي، خصوصاً بعد تطويقه بالمتظاهرين في مبنى الوزارة الثلاثاء الماضي، وتمّ إجلاؤه بسلام عبر خطة بوليسية لإنقاذه من "غوغائية" من دخلوا المبنى، ومن يحيطون بخارجه من كل جانب، وكان حريّ به وهو العالم بأسرار صفقات النفايات التي أُلغيت، أن يضع استقالته بتصرُّف رئيس الحكومة، كونه محسوباً عليه وعلى دارة المصيطبة منذ ريعان شبابه، وأن يصارح اللبنانيين بكل شيء للحفاظ على سمعته الشخصية المنزهة عن أية اتهامات في ملف تعبق رائحته منذ بدايات "سوكلين الحريري".

المشكلة في غالبية المسؤولين اللبنانيين أنهم مهما حصل فإنهم بكراسيهم متمسكون، وبصفقاتهم متمادون و"الدني عم تشتي"، وربما لا بد للشارع من التوحّد وتنقية ذاته من أزلام السلطة "المندسين"، ومن المنظمين المشبوهين الذين طلعت ريحتهم، لتبدأ كراسي الحكام الطالعة ريحتهم بالاهتزاز، وإلا كفى اللبنانيين مظاهرات غير مجدية و"طبخات بحص".