يعلم التكفيريون والدول التي تمولهم، أنهم لا يستطيعون فرض الدولة ​الإسلام​ية إلا باتباع خطة "فرق تسد"، لأن غالبية المسلمين في العالم يرفضون هذا الحكم. لذا يسعون إلى تقسيم الشعوب لافتعال الحروب الأهلية. فيدفعون أموالاً باهظة لترويج فتاوى عنصرية تأمر قسمًا من الشعب بتكفير القسم الآخر باسم الدين، وباحتقاره، وبكرهه، وبالطمع في أرزاقه ومناصبه ومنازله ودور عبادته. وهذه الفتاوى هي التي سمحت بتأسيس "القاعدة"، ثم "فتح الإسلام" (التي كادت تودي بكيان لبنان لولا بسالة جيشه)، و"داعش" و"النصرة"، اللتين تتحالفان في لبنان ضد الشعب اللبناني وجيشه وكل مَن يدافع عنهما، بغية تحويل لبنان إلى إمارة إسلامية خاضعة لـ"داعش" أو لـ"النصرة" (اللتين تنويان التقاتل عليه بعد كسر اللبنانيين، لا قبل). وقد أعلنت داعش "إمارة لبنان" وجعلت على رأسها عبد السلام عبد العزيز الاردني، بلقب "أمير الدولة الإسلامية في لبنان"، ومهمته تنظيم الحرب على لبنان، بغية إخضاع المسيحيين وجعلهم يدفعون الجزية ويمشون مطأطئي الرؤوس، وكذلك، إعطاء الأوامر للمسلمين السنة، وقتل مَن منهم يعصى هذه الأوامر ويخدم لبنان، وقتل كل الشيعة والعلويين والدروز. كل ذلك تطبيقًا لفتاوى ​ابن تيمية​ التي تُعلَّم في أيامنا في الغرب في كتب تباع في المكتبات علنًا، أو توزع في الجوامع.

ويروي كتابي "فتاوى وكاريكاتور" قصة سجن الناشط السعودي ​رائف بدوي​ تطبيقًا لإحدى فتاوى ابن تيمية. فقد أوقف هذا الأب الشاب لأنه مارس حرية التعبير على الرغم من أنه يعيش في المملكة العربية السعودية. وحكم عليه بالجلد 50 جلدة في جدة كل نهار جمعة في الشارع بعد الصلاة، لمدة 20 أسبوعًا. وأروي "جرائمه"، وأفظعها القول باحترام المسيحيين والمطالبة لهم بحق بناء الكنائس في المملكة العربية السعودية بما أن البلدان ​المسيحية​ تسمح ببناء الجوامع في أراضيها.

لكن دول الغرب لم تتجرأ على المدافعة عن رائف بدوي، خوفًا على مصالحها النفطية والاقتصادية في بلده. حتى إن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند سمح بأن يُجلد رائف بدوي في الوقت الذي كان هو يدعو فيه الملك السعودي إلى المشاركة في التظاهرة التي نظمها في باريس للدفاع عن حق مجلة "شارلي إبدو" في إهانة المسلمين والسخرية من نبيهم.

وأنا ألفت النظر في كتابي "فتاوى وكاريكاتور" إلى أن المجلة المذكورة لم تتناول موضوع الإسلام إلا منذ سنين قليلة، خصوصًا بعد مجزرة نيو يورك في 11 أيلول 2001 وبروز أسامة بن لادن في واجهة الإعلام الغربي. قبل ذلك، أهانت "شارلي إبدو" المسيح وأمه العذراء وبابا روما وبطاركة الروم الأرثوذكس، وسائر المسيحيين، إضافة إلى الوطنيين في فرنسا، عشرات السنين، في أقذر النصوص والرسوم والصور المركبة وأحقرها. وسنة 1975، لمناسبة عيد الميلاد، دعت "شارلي إبدو" إلى انتهاك كل مغارة لعيد الميلاد، وقتل الكهنة والعسكريين ورجال الشرطة، وحرق المصارف، علمًا أن القانون الفرنسي يمنع التحريض على القتل أو العنصرية، ولو على سبيل السخرية.

عاقب المسيحيون "شارلي إبدو" بالطرائق القانونية، رافعين الدعاوى القضائية ومقاطعين المجلة، فماتت وكفت عن الصدور سنين عديدة. وبعد عودة تأسيسها، لم تكن "شارلي إبدو" بصحة جيدة، لأنها لم تجذب عددًا كافيًا من القراء لتغطية مدفوعاتها. فكان المساهمون فيها هم الرسامون، الذين كانت تتضاءل أجورهم إن لم تكن المجلة تبيع بما فيه الكفاية، وكانوا، على العكس، يكسبون المال إذا ازداد المبيع.

ورأت "شارلي إبدو" نفسها في ضيق مالي سنة 2005. آنذاك، كانت قضية الكاريكاتور الدانماركية تتصدر الإعلام جراء العنف الكلامي والجسدي الذي كان يُمارَس بسببها. فأعلن مدير "شارلي إبدو" أنه سينشر الرسوم المذكورة، ولم يتمكن الإسلاميون من منع صدور المجلة. لكنهم أثاروا ضجة إعلامية سمحت لـ"شارلي إبدو" بمضاعفة المبيع، وبربح أموال استفاد منها أهم المساهمين.

قُتل المئات من المسيحيين الأبرياء في العالم بسبب الكاريكاتور الدانماركي، ولأن عشرات الصحف وجدت في نشرها، وسيلة لربح الدعاية والشهرة والمال. وبعض الرسوم التي أثارت غضب الجماهير الإسلامية في آسيا وأفريقيا لم تكن من صنع الصحافة الدانماركية، لكنّ إسلاميي الدانمارك نشروها مع الرسوم المذكورة، كأنها منها. وهي مهينة جدًّا للمسلمين، فاستُعمِلت أكثر من الصور الحقيقية لإثارة النعرات الطائفية وافتعال التظاهرات الدموية وانتهاك أحياء المسيحيين الأبرياء وإحراق دور عبادتهم، وقتلهم. ولن أروي القصة هنا بأكملها، فهي طويلة، وعلى أي حال، قد رويتها مع المراجع في كتابي "فتاوى وكاريكاتور"، كما رويتُ سوابقها وتوابعها.

وبما أنّ ردّ فعل التكفيريين كان يجذب الإعلام والقراء والمحسنين، رأت إدارة "شارلي إبدو" في التعدي على المسلمين ونبيهم، وسيلة للتعويض عن قلة محبة القراء للمجلة، واستعملتها عندما كانت في ضيق.

وسنة 2014، شارفت "شارلي إبدو" الإفلاس، فأخذت تشحذ الأموال من المتبرعين. فجمعت 200 ألف يورو. هذا المال لم يكن ليؤمن لها إمكان الاستمرار. وإذ كانت في أمسّ الحاجة إلى ربح الدعاية والقراء والتبرعات، قررت أن تتناول موضوع نبي المسلمين مرة أخرى، في عدد يصدر في كانون الثاني 2015.

ولكن قبل صدوره، أي في 7 تشرين الثاني 2015، أرسلت "القاعدة" رجلين قتلا 12 شخصًا منهم أهم أركان "شارلي إبدو"، في الوقت الذي كانوا يحضرون فيه غلاف العدد المذكور. وقتلوا أيضًا اثنين من رجال الأمن الفرنسيين، أحدهما ينتمي إلى الطائفة السنية، تمامًا مثل قاتليه.

وبفضل "القاعدة"، ربحت الصحيفة التي كانت تتحضر لإقفال أبوابها، أكثر من 30 مليون يورو، ما يكفي لاستمرار نشرها طوال عشر سنوات، حتى إذا لم يشترِها أحد.

ولا بد من التذكير بأن المسلمين الذين استعملوا العنف بسبب الإساءة إلى نبيهم (في ظروف عديدة أرويها في كتاب "فتاوى وكاريكاتور")، لم يحركوا ساكنًا عندما أساءت "شارلي إبدو" وغيرها إلى المسيح وأمه طوال عشرات السنين، علمًا أن القرآن لا يذكر اسم امرأة سوى مريم، ويذكره 34 مرة. ويقول إن ابنها يسوع (عيسى) هو خالق وشافٍ للأمراض التي لا شفاء لها، ومقيم للموتى: {أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلُقُ لكم من الطينِ كهيئةِ الطيرِ فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئُ الأكِمَّه والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذن الله}. (سورة آل عمران، )

وإذا كانت للمسيح وأمه مريم هذه الأهمية في نظر كتاب المسلمين، فلماذا لم يدافع الأصوليون عن شرفهما؟ فقد طبقوا فتوى ابن تيمية حين قتلوا ثيو فان غوخ ورسامي شارلي إبدو، وقتلوا أيضًا في أفريقيا وآسيا، مئات الأبرياء المسيحيين الذين لا علاقة لهم بالكاريكاتور الدانماركي أو الفرنسي. كذلك، حاولوا قتل الدبلوماسيين الدانماركيين أو الفرنسيين في بلدان عدة منها لبنان، وغزوا أحياء المسيحيين في نيجيريا وباكستان ولبنان، فكانت غزوة الأشرفية الشهيرة التي أرويها أيضًا في هذا الكتاب.

فتوى ابن تيمية المذكورة تأمرهم بقتل ساب كل من الأنبياء والقديسين الذين يعترف بهم المسلمون، وفي طليعتهم مريم وابنها. لم نرَ أحدًا منهم يفتي بقتل (أو بمقاطعة) مَن أهان يسوع أو مريم (وبذلك أهان القرآن الذي يميزهما عن كل سائر البشر)، فيما نص ابن تيمية واضح جدًّا: "والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا، فمن سب نبيًّا مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين المذكورين في القرآن أو موصوفًا بالنبوة ــ مثل أن يذكر في حديث: أن نبيًّا فعل كذا وقال كذا، فيسبّ ذلك القائل أو الفاعـل، مع العلم بأنه نبي، وإن لم يعلم من هو، أو يسبّ نوع الأنبياء على الإطلاق ــ فالحكم في هذا كما تقدم (في مسألة حكم من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم)؛ لأن الإيمان بهم واجب عمومًا، وواجب الإيمان خصوصًا بمن قصّه الله علينا في كتابه، وسبّهم كفر وردة إن كان من مسلم، ومحاربة إن كان من ذمي".

أنا ضد القتل طبعًا، فأحارب الشر بوسائل غير دموية وأكثر فاعلية، وهي الكلمة التي تثبت الحق أكثر من السيف بكثير. ومسلمون كثر من رأيي ويفعلون الشيء نفسه. لكن الذين يؤمنون بابن تيمية ويقتلون طاعة له (بن لادن و"القاعدة" و"بوكو حرام" و"​جبهة النصرة​" و"فتح الإسلام" و"داعش" وغيرهم)، يشاركون في الحرب على أنبياء المسلمين بسكوتهم، لا بل يسبّون هؤلاء الأنبياء، فتنطبق الفتوى المذكورة عليهم أيضًا.

وهذا ليس سوى أحد التناقضات عند هؤلاء التكفيريين ومعلميهم. طبعًا لا نطلب أن يقتلوا ساب المسيح، لأن سيفنا هو الكلمة وليس العنف ــ كما كان سيفه هو. إنما، لو أبدوا شيئًا من الانزعاج أمام إهانة المسيح والعذراء في الغرب، لما كان تجرأ "شارلي إبدو" على شتم نبي المسلمين في هذا الشكل، ولما كان هذا الكره المتبادل بين الطوائف في أوروبا.

لكن، ربما يريدون هذا الكره. ربما يريدون أن يكون مسلمو أوروبا تعساء، كي ييأسوا فيتجندوا في صفوف "داعش" و"القاعدة".