يُعتبَر ​مقام أبو ذر الغفاري​ في ​بلدة أنصار​ الجنوبية من المزارات الدينية للمسلمين الشيعة ليس فقط في لبنان وجنوبه، وإنما أيضاً في سوريا والعراق، بعدما تحوّل إلى مقصدٍ للتبرّك منه نظرًا لروحانيته بدفع النذورات طلباً لشفاء مريض أو تلمّسًا لحاجة ملحّة، حيث تيقّن الناس على مرّ القرون ببركته بعد تحقيق بعد التمنيات، ومنها حمل امرأة بعدما كانت عاقرًا، فضلاً عن شفاء العديد من المرضى.

ويعود تاريخ بناء المقام الى اكثر من 150 سنة، حيث كان عبارة عن غرفة وبعض النقوشات الصخرية، إذ كان ابو ذر الغفاري يمكث فيها اثناء ترحاله من الصرفند الى ميس الجبل، ويتأبط "كيلة"، هي وعبارة عن وعاء كبير لاحتواء المياه من عين مجاورة للمقام، وقد سميت فيما بعد بـ"عين ابو كيلة" نسبة الى كيلة ابو ذر الغفاري، الذي كان يستخدمها ليشرب فيها من العين التي ما يزال يشرب منها ابناء البلدة ويسقون بواسطتها مزروعاتهم وبساتين الحمضيات المجاورة للمقام.

ومع تقدّم السنوات، ازداد تعلق اهالي البلدة بروحانية هذا المقام، بحيث عمدت بعض الايادي الخيرة للتبرع بالمال لتوسيعه، فاصبح يضم مصلى ومكتبة اسلامية توفر للزائر فضلا عن الصلاة فيه اقامة مجالس العزاء حبا للامام الحسين وال بيته استكمالا لرسالة ابو ذر الغفاري. وللمقام نقطة مركزية إذ تحيط به قرى وبلدات البابلية – الصرفند – انصارية والغسانية والكوثرية وابو الاسود الطريق الى الساحل الجنوبي. وقد شهد المقام زيارات من قبل المؤرخين من اسطنبول في تركيا والشام وسوريا والعراق وجزين وجباع وكسروان وغيرها من المناطق اللبنانية التي تهتم بالاثر الشيعي.

ويوضح رئيس الجمعية العاملية لإحياء التراث ​الشيخ قاسم المصري​ أنّ هذه المنطقة تسمى بر الشام أي جبل عامل، واتى ابو ذر الى هنا بحيث اسلمت المنطقة بأكملها على يديه طوعا، لافتاً إلى أنّ الفتح الإسلامي لم يأتِ الى هذه البلاد، ولكن هذه القرى كلها أسلمت، ويرجع اصل تدين اهلها ومعرفتهم بشيعة علي بن ابي طالب الى ابي ذر الغفاري.

ويقول الشيخ المصري، في حديث لـ"النشرة"، أنّ أبو ذر الغفاري "كان خفيف المؤونة يتجول من منطقة الى منطقة دون معرفة المدة التي كان يقضيها في كل منطقة تبعا للظروف"، ويلفت إلى أنّه عندما أسلمت هذه البلاد على يد أبو ذر، "ارسل معاوية الى والي المنطقة يسأله عن الخراج ويقول له ان أبو ذر أفسد علينا أهلها، فإذا كان لك حاجة في بر الشام فارسل عنها أبو ذر، وفي هذه الفترة الزمنية كان أبو ذر قد شيع وأسلم الكثيرين من قرى هذه البلاد، فأرجعه معاوية الى الشام ومنها الى المدينة، وعندما دخل المدينة وكان عثمان وهو المعروف بالخليفة الرابع، قال له: يا ابا ذر اي البلاد احب اليك واي البلد اكره عليك، فرد ابو ذر أن مدينة رسول الله احبها الي، واكره البلاد علي الربذة لنباح الكلاب عليه في وقت مضى، فقال عثمان: إحملوه اليها، فأجابه: اوتعرب بعد الهجرة؟

ويشير الشيخ المصري الى ان سيرة ابو ذر كانت عريقة وذات ابعاد وأثر كبير في بلاد جبل عامل المعروفة (من أرنون الى ساحل البحر وما يحيطها)، "وهنا حيث أنشىء المقام هي وسط جبل عامل، والسيرة المعروفة لهذا المقام أن أبا ذر عندما كان يأتي الى هذه المنطقة التي هي عبارة عن مفترق طرق ويوجد نبع ماء وهي منطقة كانت مقصودة لكثرة وجود المياه فيها انذاك، والمعروف والمشهور شهرة عظيمة عند اولاد واباء واجداد هذه البلاد أن ابا ذر كان يأتي من الصرفند فيسكن هذا المثلث لفترات معينة يتحدث مع اهالي هذه المناطق وبالتالي عرفت ببلاد ابا ذر نسبة لتشيعها على يديه".

وبحسب الشيخ المصري، يعود وجود المقام القديم قبل توسيعه الى ما يزيد عن مئة وخمسين سنة وهو عبارة عن غرفة بحجم ثلاثة امتار بثلاثة امتار، وكانت تشهد إقبالاً للمصلين فيها ودفع النذورات نسبة الى مكوث ابو ذر فيها، وكانوا يشعلون الشموع ويقيمون الصلوات لأنها منطقة باركها ابو ذر حيث كانت تحوطها الصخور والنقوشات عليها من الأشكال الهندسية العديدة والتي يوجد تحتها قبور للمسلمين وغير المسلمين وفي نواحٍ عديدة من البلدة.

ويلفت المصري الى ان المؤمنين الذين اعتادوا على زيارة المقام قاموا بتوسيع المقام فاستأذنوا الجهات الشرعية وبنوا المقام الجديد مكان المقام القديم ببركة وتبرع مجموعة من الناس الذين يرتادونه فيقيمون الصلوات مغربا وليلاً ويوفون النذورات ويقيمون مجالس العزاء، كاشفاً عن وجود نية لبناء غرفتين مجاورتين للمقام مخصصتين لخادم المقام، علماً أنّ النذورات التي تخصص للمقام اصبحت تكفي لخدمته في كل المجالات، وقد وضع داخل المقام ضريحا لابي ذر ولكنّه غير مدفون فيه.

ويلفت المصري الى انه خلف الجبل المقابل للمقام توجد وادي جهنم والمشهور تاريخيا أن يزيد بن معاوية قتل في هذا المكان والمنطقة كانت معروفة تاريخيا بالصيد وما زالت، وهي منطقة حرجية قديمة جدا في نهاية الوادي وعلى رأسه قلعة ميس المعروفة من زمن جمال باشا الجزار وما تزال فيها بقايا عظام واثار مشانق وقد تعرضت للقصف والتدمير الإسرائيلي وسميت بوادي جهنم نسبة لمقتل يزيد فيها ونظرا لتشعب طرقاتها ومفارقها.

يقول الشيخ المصري، ختاماً، ان مؤرخينا وثقوا سيرة ابا ذر الغفاري وعرجوا على مقامه في انصار وما زال هناك مخطوطات غير مطبوعة، إضافة الى حرق المكتبة القديمة للشيخ عبدالله الشعيتاني في انصار والتي كانت تحوي بعض المخطوطات وذلك ابان الأحداث الفلسطينية الشيعية.

في المحصّلة، مقام أبو ذر الغفاري هو أحد المزارات الدينية التي من شأنها أن تشكّل رافعة للسياحة الدينية، في بلدٍ يجب أن يبقى تنوّعه غنى حقيقياً وجوهريًا، وإن كان البعض يسعى لتحويله لنقمة، عن سابق تصوّرٍ وتصميم...