فجأة سقطت على اللبنانيين مفاجأة التوافق على السير بمشاريع استخراج الثروة النفطية، بعد أن طوى النسيان هذا الملف بين أمواج الفضائح المتناسلة، التي لا تكاد روائح احداها تزكم الأنوف حتى تغطيها الثانية بروائح أكثر نتانة، وبنافذين أكثر وقاحة وإجراماً.

في لبنان وحده، استثناء من بين الدول، لم يلاقِ "التوافق" على تسهيل السير بملف النفط ترحيباً من اللبنانيين، لأن هذا "التوافق" في عُرفهم هو صفقة على حسابهم، ومن جيوبهم، وهم الذين تعودوا أن تأتيهم أفضل الفرص لكشف عورات هذا النظام الذي يحكمهم، ومدى ارتكابات النافذين فيه، كلما اختلف هؤلاء النافذون في محاصصاتهم؛ مالية كانت أو سياسية أو إدارية.

اللبنانيون "يبرّدون اللبن لأنهم اكتووا بالحليب"، كما يقال، وأظهر التعامل الإعلامي مع هذا الحدث مدى انعدام الثقة بين المواطن و"المسؤول"، خصوصاً بعد أن تبارى بعض المسؤولين في المزايدة على المواطنين في الطعن بهذا الحكم، ووصل الأمر برئيس الحكومة تمام سلام إلى إعلان أن حكومته "فاسدة" و"فاشلة"، وحذّر رئيس مجلس النواب من ثورة الشعب! وكأن مَن في سدة المسؤولية باتوا مطمئنين إلى أن ما يواجه هذا الشعب يقف حاجزاً بينه وبين الثورة أو حتى الاعتراض على الواقع الظالم المفروض عليه.

واللبناني حائر بين الفرحة بتباشير تحوُّل بلده إلى بلد نفطي غني، وبين الخوف على هذه الثروة الواعدة من أن تبددها وتسرقها الطبقة السياسية المتحكّمة بمقاليد البلاد ورقاب العباد.

فمن حقنا أن نسال: هل يؤتمَن على النفط من استولى على واجهة بيروت البحرية، ووسط العاصمة، وحوّلها إلى مُلكية خاصة لشركة خاصة، ومن لم يسرق تواطأ وقبل رشوة؟ وهل يؤتمَن على الثروة الواعدة من أوقع البلاد تحت عبء ديون باتت على قاب قوسين من المائة مليار دورلار؟ وهل يجوز للبناني أن يقبل بتسليم ثروته إلى من استغلّ فرص انشغال اللبنانيين بمشاكلهم المستعصية وانشداد أنظارهم إلى النيران التي تأكل محيطهم العربي، فعمد إلى تسجيل الأملاك العامة في الرملة البيضاء وغيرها باسمه، تزويراً فاضحاً، في ظل غياب القانون وضياع الحق وأهله؟ وهل يظن مغرض أن اللبنانيين نسوا أو تناسوا فضيحة طمرهم بالنفايات أكثر من ثمانية أشهر، ثم استكمالها بفضيحة التجديد لشركتي "سوكلين" و"سوكومي" مع كل ما يلفّ ملفّهما من سرقات وهدر ومحسوبيات؟

ومن حقنا أن نسال عمن سيحمي الثروة النفطية من أطماع العدو "الإسرائيلي"، في ظل استمرار أصوات النشاز بالنعيق ضد سلاح المقاومة، وضد ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة"، الكفيلة بحماية لبنان وثروته؟

كذلك: ألا يجب التنبُّه مسبقاً إلى أن الثروة النفطية الموعودة والمقدَّرة بين 200 و250 مليار دولار؛ بتقدير دخل سنوي يترواح بين 4 إلى 5 مليار دولار، أي ما يقارب قيمة فوائد الدَّين العام، هل سيتم هدرها على تغطية هذا الدَّين ومضاعفة ثروات أصحاب سندات الخزينة، أم ستكون فرصة للتنمية وإيجاد فرص عمل وتنشيط الدورة الاقتصادية؟

يستغلّ أركان الطبقة السياسية الفاسدة تراكم الهموم والمصائب على رؤوس اللبنانيين، ليتكالبوا أكثر على استضعافهم وسرقتهم، فاللبناني وحده في هذا العصر ما يزال يعاني من صعوبات تفوق طاقته للحصول على مياه الشفة والكهرباء والهاتف والطبابة والتعليم وباقي الخدمات الأساسية، إلا إذا دفع فواتير مضاعفة لأكثر من جهة.

ويخاف اللبنانيون أن يكون "توافق النفط" ملهاة جديدة؛ مثل الانتخابات البلدية التي أطفأوا بها حرارة الحديث عن فضائح "الإنترنت" غير الشرعي، واختلاس مداخيل الاتصالات الهاتفية عبر شركات خاصة.. هل سمع أحد مؤخراً أي كلمة عن مسار فضيحة اختلاس مليارات الليرات في مديرية قوى الأمن، أو عن مصير الأحد عشر مليار دولار التي صرفها فؤاد السنيورة من دون قيود؟ وهل يسأل أحد لماذا لبنان من دون موازنة عامة منذ العام 2005؟

الأخطر، أن البعض بات يعتبر أن اللبنانيين باتوا أسرى بين فكي كماشة الفساد و"الإرهاب التكفيري"، حتى بات بالإمكان الظن أن الفساد يستقوي بالإرهاب التكفيري المتجمّع في جرود عرسال والقاع، والإرهاب يحتمي بالفاسدين القابعين في قصور السلطة، الذين يمنعون الجيش من تحرير المساحات الواسعة من الأرض اللبنانية من أيدي عصابات "داعش" و"النصرة".. وإلا كيف يمكن تفسير اطمئنان مَن هُم في السلطة إلى ركون الشعب وخنوعه أمام تفشّي البطالة ورفض المسؤولين إصدار سلسلة رتب ورواتب عادلة، وكيف يمكن تفسير ما يجري في القضاء من عدم التحقيق مع رموز فضائح "الإنترنت" والهاتف.. حتى بات كل شيء في البلاد ملوثاً؟ فمن يجرؤ على إعلان الثورة؟